ادب وتراث

الشاعر حبيب السامر وآفاق النثر في أصابع المطر

اصدر الشاعر حبيب السامر ديوانه الجديد اصابع المطر الذي احتوى على 26 قصيدة ، وفي هذا الديوان يكرس الشاعر لتجربته ويوسع من افقها باتجاه جديد يحتاج الى قراءة متفحصة لأنها تستثمر منجزات قصيدة النثر بإشكال وجمل شعرية وصور ومجازات مبتكرة تسجل لصالح ديوانه الجديد وهو اضافة واضحة لمنجز قصيدة النثر باعتبارها جنسا بمواصفاته الخاصة، وباعتبارها إمكانية منفتحة على النصوص والأجناس المجاورة تغنيها وتمدها بالتجديد والتنوع ومجاوزة المألوف باتجاه تأسيس شعري جديد.

ومن أهم سمات قصائد ديوانه الجديد أنها تنحو إلى بناء عالم مشخص يعبر عن حياة آفلة أو تطلع لبناء فكرة مبتكرة أو بناء علاقة من نوع خاص مع آخر يخص الذات ويكون قريبا منها، وفي هذا النزوع الشعري يعمد الشاعر الى بناء عالمه هذا باستثمار لغة شعرية تختزن العديد من الصور والمفردات الموحية والجمل الشعرية والتقنيات الملائمة للإشارة إلى هذا العالم الذي تنظمه القصيدة وتبنيه، ومن أهم العناصر اللغوية التي يعتمدها هذا الشاعر استنفاره الجملة الاسمية أو شبه الجملة في تشكيل العبارة الشعرية، وإبعاده بشكل مقصود كما يبدو للأفعال التي تأتي في العديد من هذه القصائد أما منحاة في وسط أو أواخر الجملة الشعرية أو باستثمار أفعال باردة غير متحركة يمكن أن نسميها أفعالا لمحية مثل يحتمل، يتذكر، يحشر، يلمح، تتعانق، يسرق .. محافظا بذلك على قوة المشهد الصوري أو الصورة المشهدية اذا جاز التعبير، ومن خلال هذه التقنية يمكن للشاعر أن يوقف زمن القصيدة او المشهد الشعري بهدف تقريب الصورة من اجل التأمل في الجملة الشعرية أو في عالم القصيدة .
ولقراءة تشكل هذا المنحى الشعري الجديد في ديوان الشاعر حبيب السامر اصابع المطر ،سنعمد الى قراءته على وفق تشكل أجزاء القصيدة الواحدة ابتداء من المفتتح استهلال القصيدة وصولا إلى بنيتها الكلية للإحاطة بمستويات هذه القصائد وعلاقة بعضها ببعض لتشكيل عالم القصيدة الذي اشرنا اليه بداية . نلاحظ في استهلال أو افتتاحية العديد من قصائد الديوان ميلها إلى الإزاحة اللغوية باتجاه خلخلة السياق بكلمات وافعال تجعل الجملة الشعرية والتركيب اللغوي مفارقا للقواعد المألوفة في بنية اللغة العربية سواء في سياقها أو في استثمار بلاغات اللغة كالتقديم والتأخير مثلا، كما أنها تميل إلى بعثرة الكلمات بشكل عشوائي لخلق سياق مخلخل لا علاقة له بالجملة المجازية العربية التي تتحكم بها قوانين لغوية صارمة، فالجملة الشعرية هنا تتشكل على وفق سياقات يريدها الشاعر للتعبير عن رغبة في إبراز عناصر من هذه الجملة وتأجيل أخرى، كما نجد ذلك واضحا في تقديم الصفة على الموصوف، أو تأجيل ظهور الفعل، إضافة إلى ذلك الميل الواضح لجمع وتآلف المتناقضات في الجملة الشعرية الواحدة وبالشكل الذي يولد انسجاما من نوع خاص أساسه العلاقة بينهما في النص وبينهما وقارئ النص الذي لابد أن يعيد تركيب الجملة الشعرية إما بتأمل أجزائها التي تبدو متنافرة مع بعضها ليتمكن من قراءتها بشكل صحيح او بإضافة أو تحريك بعض الكلمات بالاتجاه الذي يولد الدلالة والإيحاء الذي يطمح الشاعر إلى بلوغه، وسوف نجد أن بنية الجملة الشعرية في مفتتح القصيدة هو نزوع في تأليف أجزاء متن القصيدة، أساسه منتجة الجملة بالاتجاه الذي يترك فراغات واضحة في بنيتها لبناء علاقة شراكة وألفة مع المتلقي …
وهناك أمثلة سنعرضها للتدليل على استنتاجنا هذا من استهلالات بعض القصائد.
في استهلال قصيدة الجسر الأسود يقول
الجسر الأسود
لا يَحتمل طَوِيلاً الْمُكُوث
هو َيتَذَكَر الْبَصْرِيُينَ
حِينَ يَخْطُون
يَلْمَحُ َ قَلَقِهمِ آثَراً أثراً
فِي لَحْظَةٍ
لَمْ يَتَذَكَرْهَا بَعْد
يتكون هذا الاستهلال من جمل تبدو غير مترابطة ف الجسر الأسود لا يحتمل طويلا المكوث بتقديم النائب عن ظرف الزمان طويلا باعتباره صفة عن زمن المكوث على الموصوف المكوث ، وبالتركيز على نائب الظرف وكأن الجسر ذاتا متأملة قلقة ويتضح ذلك من الجملة الشعرية الثانية هو يتذكر البصريين حين يخطون .. يَلْمَحُ َ قَلَقِهمِ آثَراً أثراً ،وسينقلنا التأمل في هذه الجمل الشعرية ومحاولة إعادة تركيبها بإعادة ما حذف منها قصدا وبالعلاقة مع تفاصيل القصيدة اللاحقة الى المعنى القريب ل طويلا المكوث الذي ينظم العلاقة الزمنية السلبية بين الجسر وما تحته من ماء راكد وروائح كريهة تجعل العابرين يفضلون المرور السريع عليه دون المكوث الطويل الذي نفترضه لجسر يقع على نهر تحفه البساتين وتنتشر على ضفتيه الروائح الزكية ،ويتضح هذا المعنى من تفاصيل متن القصيدة، يضاف الى ذلك أن التأويل سيتخذ مجرى آخر يصبح فيه هذا الجسر استعارة عن علاقة ضدية متناحرة بينه وبين العابرين سنحاول تناولها لاحقا
وفي مفتتح قصيدة غربال نقرا
عَلَى حِينِ صَّحْوٍ
بِِمَقْرُبَةِ رَصِيْفَينِ مِنْ آخِرِ نِدَاءٍ
كُنْتُ فِي مَهَبِ الْجُنُّونِ
ومن خلال تأمل المفردات التي تشكل الجمل الشعرية نلاحظ وجود زمن على حين صحو ومكان بمقربة رصيفين وصوت نداء ثم شعور حاد يشبه الجنون كنت في مهب الجنون وإذا أكملنا هذا المفتتح سنجد انتقالا مفاجئا لوجهة النظر من الضمير بلسان المتكلم إلى جماعة المتكلمين
على ضجيج غفوة
فتحنا أبصارنا في وحشة البراعم وفراغات المرايا
وجدنا غربالا ناعما يرشح ثلجا
وهذا الاستهلال يتشكل بنفس الطريقة الاستعارية لاستهلال قصيدة الجسر الأسود فهو عند فحصه بإزالة التقديم ومحاولة نثره بإضافة بعض العبارات سيتضح أن الموقف قد تجلى فجأة في فضاء واسع أشار اليه الشاعر بمقربة رصيفين الذي يحيل إلى فضاء خارجي يجري فيه صراع تغذي إدامة التأويل فيه الجمل الشعرية في متن هذه القصيدة التي تنحو منحى استعاريا هجائيا واضحا باتجاه عالم يسوده الفساد ويتعملق فيه الفاسدون والوشاة ….
وفي مفتتح قصيدة ليل التنومة نقرأ
لَيْلُ الْتَنَومَة
مَحْزُوز قَمَرُهَ ُ بِنَافُورَاتِ النَخْلِ
عُشْبَةَ كَرْدَلانَ نَفْتَرِشُها
والْيمَامَاتُ الحية بَيْنَ الْسَّعْفََاتِ
ُ أَنَاتِهَا تفر من بين السعفات
في هذا الاستهلال مفارقة في بنية سياقها بين كلمة محزوز التي تشي بالقطع الحاد وبين نافورات النخل التي تجعل بين هاتين الكلمتين ألفة وتعانق ترفده الجمل الشعرية اللاحقة التي تنشئ مجالا نتحسس فيه جمالية المكان واتساع فضائه، بالعلاقة الحميمة بين الذات وهي تفتش في الذاكرة عن المكان الأليف وطبيعته الخلابة،على وفق انتقالات بين قامات النخيل العالية وهي تحضن اليمام والارض الفسيحة المعشبة .كما أن تأمل الجملتين الشعريتين واليمامات الحية بين السعفات
اناتها تفر من بين السعفات
بملاحظة التكرار في الكلمتين بين السعفات وعلاقتهما بكلمتي الحية وتفر لوجدنا أن تأليف هذه العبارة ينحو الى تكثيف لحظة الفرح والنشوة حين تصر الذاكرة وهي تعيد تشكيل الصورة على حذف الانات لانها من منغصات الحاضر لصالح الصورة الحية لليمامات في صورتها المتآلفة في الذاكرة، وفي نفس هذا المنحى سنجد في قصيدة عصا الخرنوب تلك الذاكرة اليقظة وهي تعيد تشكل عالم الطفولة بمنغصاته المحببة وبين حاضر تسكنه الوحشة وتعشش فيه أغصان الخرنوب، حين ترصد الذات مقبرة بمفارقة مهمة أيضا ترى في المقبرة فردوسا ارضيا يحتمي فيه طلاب المدارس في هروبهم من مدارسهم، والقصيدة لا ترسم مشاهد لجماليات المقبرة كما هو مفترض بل تلجا إلى تصوير معاناة الطلاب الهاربين اليها وهم يتلقون عصي معليميهم الذين يتعرفون على هروبهم إلى المقبرة من خلال اشواك الخرنوب العالقة في قمصانهم وملابسهم،
يبَدَأَ الْمُعَلَِم ُ الْدَرْسَ
تَلامِيْذُ الْمَقْبَرَةِ غَائِبُون
تَتَكَرَرُ الْصُورَةُ
آثَارُ الْخَرْنُوبِ
شَوْكُ الْخَرْنُوب ِالْنَاتِئِ
يَعْلَقُ،
يَنْغَرِزُ
يَرْسُمُ لَوْحَةَ دَمٍ على قمصانهم البيضاء
أما في قصيدة ولا على المرآة حرج فالشاعر يستثمر بنية
الجملة القرآنية، لإثارة انتباه القارئ باتجاه التعرف على عالم الذات الضاج بالنرجسية وتمجيد الجسد مستفيدا من انعكاسات جسد الشخصية وهواجسها وفرحها وهي تعيش عالمها بفردية فاضحة تتأمل نفسها في مرآة، واستثمار التناص بين لغة القران الكريم وبين لغة مفتتح القصيدة، الذي يخدم غرضا واضحا يتعلق بالمرآة كشاهد محايد ليس له قدرة التأثير مثله مثل الأعمى والأعرج ممن لا يملكون قوة الأصحاء وقدراتهم، وبهذا المعنى تصبح المرآة شاهدا على تحولات الجسد وفرحه ونكوصه متجليا فيها، ويأتي الاستهلال ليثير الانتباه إلى المكان الغرفة التي تتوسطها هذه المرآة ونلاحظ في بنية الجمل الشعرية في هذا الاستهلال غرابة التآلف بين كلماتها وهي ترسم حدودا للغرفة
تحدها الشمس ذات اليمين
والقمر في ليال عسر
مرآة تتوسطها،
على حائط أملس
ويكون الرصد هذا بعين عدسة محايدة تعرف الاتجاهات مرة، ولكنها سرعان ما تتحول الى صوت الذات بضمير انا المرآة وبضمير الذات الناطقة مرة أخرى، وهي تقنية يستثمرها الشاعر في العديد من قصائد ديوانه أصابع المطر ،لإضاءة مساحات من فضاء القصيدة بذلك التنوع الذي يكسر افق الرتابة،بما يوفره من حركة المشاهد والصور في الجمل الشعرية المتآلفة مع بعضها .
وفي قصيدة لم تكن واضحا كما ينبغي نلحظ ذلك القطع المتعمد لسياق لجملة الشعرية بالاتجاه الذي يشرك القارئ في تأليفها أو قراءتها بالشكل الذي يعطي دلالات تنسجم مع متن القصيدة الذي يشي بهجاء مبطن للذات التي تحمل قناعتين وتحاول أن تمسك عالمين متناقضين
لم تكن واضحا كما ينبغي لتمازح نجمة بقناعة أخرى من وقت وأنت ترسم آفاقك مشوشة في الجانب البعيد نحو الدواخل كل شيء يترآى ناضجاً
نستنتج من قراءة الاستهلالات التي ذكرناها أن الشاعر يبني عالم قصيدته من مفردات وجمل شعرية تعمد الى اشراك المتلقي في إكمال بنيتها من خلال إعادة بنائها او نثر بعض كلماتها بإضافة أو حذف للوصول إلى تأويل ينسجم مع تفاصيل متن القصيدة وبالاتجاه الذي يعزز هذا التأويل، خصوصا وان الشاعر في متن كل قصيدة يراكم الجمل الشعرية بالاتجاه الذي يعزز الاستهلال، وهذا يتضح من القصائد التي اخترنا قراءتها .
ان الانزياح في لغة الشعر والتكثيف واستثمار المجازات والصور الفنية، هي سمة اساسية من سمات الشعر تمثل مميزاته التي تجعل منه جنسا قائما بذاته في ساحة الاجناس الادبية،وكل ذلك متوفر في الاشكال المتنوعة للقصيدة العربية كالقصيدة العمودية او قصيدة التفعيلة او قصيدة النثر، وبهذا المعنى فان التقنيات المستثمرة في الشعر لا تشكل وحدها انجازا خاصا بالشاعر،بل ان الانجاز يتبدى ويظهر في توظيف هذه التقنيات وغيرها في لغة الشاعر بالشكل الذي ينشئ عالمه الخاص، وهذا ما نسعى الى ايضاحه في منجز الشاعر حبيب السامر في ديوانه الجديد اصابع المطر2012
ان خصوصية استهلالات العديد من قصائده تتضح في تشكل لغتها الشعرية بلغة يغلب عليها التكثيف الشديد،وخلخلة السياق باتجاه الجمع بين كلمات تعمل على كسر السياق الاخباري المألوف في النثر باتجاه تشكل صور مفارقة تعتني بهذه الخلخلة وتشرك المتلقي في اعادة صياغتها بالعلاقة مع متن القصيدة وباتجاه الانفتاح على تاويلات متنوعة، ومن مميزات قصائد هذا الديوان ايضا اعتماد معظم قصائده على تنوع وجهات النظر بما يسمى الالتفات في النقد العربي القديم، وهي تقنية تعطي للخطاب الشعري تنوعا يكسر حدة الصوت الواحد في القصيدة الذي يكرس الغنائية الضاجة الامر الذي ترفضه الاشكال المتقدمة من قصيدة النثر العربية والعراقية، وضمن هذا التشكيل نلاحظ ان عالم الشاعر يتبدى في ثلاث ثيمات هي
1 مكابدات الذات وهي تحلم او ترفض او تهجو ويتضح ذلك في قصائد بوح في لجة الكلام،ولا على المرآة حرج،قصب اجوف،غربال، الوضوح كما ينبغي ….
2 تحريات الذاكرة في الماضي الأليف بحثا عن المكان الاليف ومحاولة القبض على المفرح والسار فيه، ويتضح ذلك في قصائد عصا الخرنوب،ليل التنومة،بائعة القيمر،بهجة الماء…. 3 البحث عن مكامن الجمال الاسر في الاشياء والكائنات والجمل الشعرية المتمردة على متون القصائد كما في اصابع المطر،قول في المسرة،رسم بلون الزيت، عزلة السكون…
نماذج عن بنية الجمل الشعرية في المتن
تنمي الجمل الشعرية في القصائد من النوع الأول والثالث تراكما يحمل كل تعبير شعري جميل وأخاذ في متن القصيدة حتى يبدو أن الشاعر يقف طويلا أمام جملته الشعرية ليطلقها في فضاء القصيدة لتعبر عما يريده، وهي جمل اسمية أو شبه جملة، تسمح بإمكانية تجسيد الصور في ذهن المتلقي، إضافة إلى استثمار حركة الفعل في الجملة الاسمية التي تطلق الحركة وتضفي على جو القصيدة تغييرا يمسح من افقها ذلك السكون والتأمل الذي تشبعه الجملة الاسمية بغرض الموازنة بين التوقف وإطلاق الحركة بما يمكن تسميته التزامن المتأهب للحركة
حين تمر الحقائب تسحب ظلال سنوات
الشجر يحلم بحفر اسمائنا
الحصى يشتاق تلمس اصابعنا الرخوة المتهافتة
كي نرمي بها في النهر
ونرسم دوائر شتى قصيدة بوح في لجة الكلام ص11
وفي قصيدة ليل التنومة يتضح التكثيف العالي في اللغة الشعرية وهي تصف وتحيط بفضاء واسع بجمل شعرية محدودة وباستثمار دقيق لوجهة النظر بالالتفات من صورة الليل الى صورة النخل والنهر والحبيبة
لَمْ يَبْقَ مِنْ ذُيُّولِ اللَّيلِ إلا آخِرَ رَشْفَةِ سَوَادٍ
النَخْلُ يَحُفُنَا
النََّهْرُ الْرَّاعِفُ لِمُوَيّجَاتٍ مُتَلاحِقَةٍ
كَالْفَجْرِ
أُسَائِلُهَا صَبَاحُكِ عِطْرٌ
وفي قصيدة قصب اجوف يتحول الخطاب الشعري الى هجاء مر،بلغة شعرية تختزن مفردات الهجاء الواضحة،تشرع فيها الذات برفض المباهج الصغيرة حفاظا على اناها من الضياع في جو المخاتلة والزيف والتزلف
خذ المقهى وكراسيه الفارغة
وان شئت،
خذ المعلقات السبع
ضعها على بوابة بيتك
يا من تيبست بين شفتيك الكلمات
صارت مثل قصب اجوف ص21
وفي قصيدة الجسر الاسود التي قرأنا استهلالها ينمي الشاعر مفارقة أساسها الوظيفة التي يشغلها الجسر كمعبر بين ضفتين .. في هذه القصيدة تبدو هذه الوظيفة معطلة بإشارات واضحة تحكمها الصفات التي تتسيد في الجمل الشعرية مثل اسود، صامت، راكد » منحسر، متهالك ثم ينتقل هذا الهجاء إلى النهر الذي يمثل استعارة عن حياة فاسدة من خلال وجهات نظر متنوعة ا يستثمرها الشاعر في هذه الانتقالات
لِمَاذَا أَسْوَدٌ؟
الْحُزْنُ الْعَالِقُ بِضْفَتَيكَ
أَمْ لِأَنَكَ تَتَهَالَكُ
وَ يَلحَقُ بِكَ الْقَاعُ
إِذَنْ لِمَاذَا تَتَمَرَدُ عَلَى الْمَارَةِ أيَُّهَا الْمُنْحَسِر
أو عبارة الهجاء الساخرة وهي تشير إلى وظيفة متدنية لهذا الجسر
الْعاَبِرُونَ
نَحْوَ بِِيُوتَاتٍ فِي شَوَارِعِهَا الضَّيِقَةِ
يَمْسَحُونَ آثَارَ أقْدَامِهِم
ثم تنتقل وجهة النظر إلى النهر بهجاء مر يضفي عليه شخصية طفيلي يحتل مكانا دون وظيفة أو حق
أيَُّهَا الْمُعَطَلُ عَنِ الْمَّدِ
والْجَزْرِ
الْمُحْتَبِسَ حَدَ الاخْتِنَاقِ
فِي الْلَيْلِ
تَهِيمُ النُّجُومُ بَعِيدّاًّ
تَذْوِي
لا آثَارَ لَها عَلَى وَجْهِكَ الْمُتَعَطِشِ
أَيُّهًا النَّهْرُ الْمَاكِثُ أبداً
تَحْتَ جِسْرٍ أَسْوَدٍ
لقد استثمر الشاعر صورا شعرية جسدت وجهة نظره عن انحراف الوظيفة في الحياة باتجاه غير انساني، ولكي ينمي هجاءه ويجعله بليغا، استثمر اساليب لغوية مناسبة منها تنوع وجهات النظر بالضمائر المشخصة في الجمل الشعرية، واستثمار النداء، ليكون الصوت الرافض قريبا وقويا، وهو يهجو بصوت عال..
وحين ينتقل الشاعر إلى ضفة الماضي الأليف، ماضي الطفولة على الرغم من منغصاته وعذاباته، تأخذ الصورة الشعرية مسارا شفيفا تتوهج فيه معالم المكان،والشخوص، ليصبح الماضي فردوسا مفقودا، يتضح ذلك بشكل جميل في قصيدة بهجة الماء التي تسرد سيرة شعرية لعمال المسفن ببداية تصف ضيق الدروب الموحلة وضجيج مكائن معمل الطحين بعبارات اقرب الى النثر
فيما مضى
وقبل أن تنزلق أقدامنا الحافية في طين الدروب الضيقة وتعرجاتها
عمال المسفن ينتظرون الباصات والسيارات المكشوفة على أرصفتنا الرطبة
وستتخذ الجمل الشعرية لها مسارا آخر حين تقترب من وصف قامات عمال المسفن وهم يعودون من العمل
وها هم يغادرون نحو اندثار البياض
ببزاتهم الزرق وانتظام طابورهم الطويل
ليعبروا يومهم المغموس بالماء
ولا يكتفي الشاعر بهذه الصور الحيادية التي تسرد ذهابهم وايابهم،بل يعمد الى رفع رتبتهم في سماء القصيدة واعلاء قاماتهم لتصبح شامخة في اسطرها الشعرية
في عيونهم تتصاعد بروق الفنارات وهي ترصد المرافئ المراسي تبتهج حين يختلط نشيج الماء بالاغنيات هم وحدهم يعرفون اسرار المراكب وهي تهرس الموجات
ولكي تبدو صورتهم اقرب الى المتلقي يتخلى الشاعر عن ضمير الغائب ليرصد حضورهم بالنداء الذي يدنيهم من المتلقي
يا صانعي البهجة للحديد
يا أصدقاء احتفاءات الماء
وحدها النوارس ترسم هلالات العيد على صفحات الغيم
ووحدكم تذهبون الان
وبعد قليل تعودون
وسط ضجة على رصيف سابح في الفضاء.
إن تجربة الشاعر حبيب السامر في ديوانه أصابع المطر تغترف من منجزات قصيدة النثر ما يجعلها تجربة ثرة، في سماء قصيدة النثر العراقية ، بما تضمنته من تقنيات وصور ومجازات مبتكرة تشير الى امتلاك الشاعر صوته المتميز والخاص في فضاء هذه القصيدة..
المصدر/ جريدة الزمان

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى