وطن برس أونلاين

جريدة عربية مستقلة

أهم الأخبار رياضة

سرّ التحوّل من فشل خليجي إلى اكتساح القارة

كتب /علي رياح

بعد ثماني عشرة سنة من إنجازنا الآسيوي غير المسبوق، وأيضا غير الملحوق- حتى الآن- يستعيد العراقيون في اليوم التاسع والعشرين من تموز ملامح المشهد وتفاصيله، كلا على طريقته، وتبعا لقناعاته سواء كانت راسخة للآن منذ إطلاق صافرة نهاية لقائنا الختامي مع السعودية، أو أن هذه القناعة أصابها التغيير ولا أقول التصدع بفعل ما جاء به البعض من نجوم ذلك الإنجاز من خطوات أو سلوكيات أو أخطاء تركت تأثيرها في مجمل المشهد، لدرجة أن كثيرا منا صار يقول متأسفا ومتأسيا إن تلك الخطوات والسلوكيات أدت إلى ثلم أو خدش تلك الصورة التي توهجت يوم (29 تموز 2007)!!

براعة الإنجاز.. وبلاغته!

أطلق يونس محمود كرته الرأسية نحو الشباك السعودية في توقيت مهم من النهائي الآسيوي، فنطق الإبداع الكروي العراقي وفرض على الآخرين السكوت الذي بلغ الصمت المطبق!

الصورة أكبر من أي كلام، وبلاغة المشهد تشي بالكثير من العبارات التي كانت اندثرت طويلًا في بطون كتب البلاغة، حتى استلـّها أسود الرافدين في وثبتهم نحو الإنجاز، ليصنعوا للعراق ـ وللعرب معهم بالطبع ـ مجدًا كرويًا لم يتحقق حتى في أشد حقب الزمان حلاوة ودعة وهدوءً وسكينة.. فكانوا كمن يطلب شهادة الأموات حين يستنطق تلك الدماء الزكية التي كانت تسفح على قارعة الطريق كل يوم، فثاروا للتوحد العراقي الذي نسفته الصراعات والاضطرابات، وأعادوا للدنيا كلها تلك الصورة الذهبية الناصعة للعراقي المتحضر الذي حكى إنسانه بالكلمة الأولى عبر الزمان، لتتردد أصداؤها في مشارق الأرض ومغاربها !

لقد كان بالفعل درسًا بألف درس.. للكرويين ولعموم الرياضيين في العالم.. وللناس البسطاء ولعموم السياسيين في الأرض العراقية.. درس يحكي مشوارًا اكتنفته الصعاب، وانتابته المكائد، ثم خضبته الدماء، فكان لا بد أن يكون الإنجاز نسيجًا وحده!

اللقب الآسيوي لم يكن شرطا!

في المغرب حيث كان يعيش المدرب البرازيلي البرتغالي جورفان فييرا مدرب منتخبنا الذي فاز بكأس آسيا (2007)، كنت أتحدث إليه عن خبايا ذلك المكسب الكروي الكبير الذي جاء في واحد من العهود العصيبة التي مر بها العراق، فقال لي: حين قرأت العقد الذي يربطني بالمنتخب العراقي في الأردن قبل أشهر قليلة من البطولة، لم أتوقف كثيرًا عند مُرتبي، لكني كنت مصرّا على معرفة حجم الحوافز والمكافآت التي كنت سأنالها لو حصلنا على البطولة، ويومها ردَّ عليَّ حسين سعيد رئيس اتحاد الكرة العراقي وقال نحن لا نريد سوى اجتياز الدور الأول، وقد كشفت لي الإجابة عن المدى الذي كان يفكر فيه السيد سعيد وكذلك ما كنت أتطلع إليه وهو أكبر وأبعد بكثير!

هذه شهادة تستحق أن تروى بعد مضي ثماني عشرة سنة من تلك البطولة، وقد حرصتُ في يومها على نقل هذه الشهادة عن لسان فييرا إلى الصحف العراقية والعربية ولم أجد سوى التأييد الخفي أو المعلن لها من قبل المسؤولين في اتحاد الكرة، ما يؤكد صدق الرجل في الحديث عما أراده الاتحاد، وما أراده المدرب.. وبالطبع فالفرق شاسع بين الرؤيتين! 

الخروج إلى شوارع الفرح!

 كان السؤال الأول الذي وجّهه فييرا بعد الفوز الآسيوي، عما يجري في العراق.. تُرى هل ستموت جموع أخرى من الأبرياء من فرط الفرحة ومغادرة الزوايا الضيقة في المنازل إلى الشوارع والطرق العامة؟! 

قلنا له ونحن نُكبّر فيه هذا الدفق الإنساني المشع: سيخرج العراقيون كما لم يخرجوا لانتصار ذات يوم، سيخرجون للثأر لتلك الكوكبة من الشهداء التي دفعت حياتها ثمنًا لفوز سبق على النمر الكوري الجنوبي في نصف نهائي البطولة.. فإذا لم يخرج العراقيون ليوم من هذا الطراز الذي يتحقق فيه أول فرح بعد الظهور الكاسح لمنتخبهم الأولمبي في أثينا قبل ثلاث سنوات، فماذا عسى أن تفعل أقدامهم غير أن تأخذهم إلى مواجهة أخرى للموت تحت شرفة الفرح العرم!

ولم يكن فييرا كاذبًا في مشاعره وهو يرى الدنيا كلها تقبل عليه بعد أن كان الرجل قبل أربعة أشهر من دون عمل تدريبي محدد يرفد به مسيرته ويديم به يومه الكروي في فترة قاسية انفضّت فيها أندية واتحادات أخرى عن التعاقد معه! 

لم يكن الرجل في وارد إظهار عاطفة مزيفة تجاه الشعب العراقي.. فبهذه الكتيبة من اللاعبين أخرج العراقيين من دهاليز الإخفاق المروع في خليجي (18) في وداع مرير لن يفارق الذاكرة ذات يوم.. قَبِلَ فييرا الرهان، وقال إنه سيعمل لمدة لن تزيد على ثلاثة أشهر، لا بل إنه قال بالحرف الواحد قبل أن يضع إمضاءه على العقد إنه لن يعمل يومًا واحدًا زيادة على آخر يوم يقضيه مسؤولًا عن المنتخب العراقي في كأس آسيا!! ولهذا كان أمد العقد ثلاثة أشهر وبمبلغ مالي ضئيل كان سيرفضه حتمًا أي مدرب أجنبي يعمل مع أي فريق مغمور فما بالك بالمنتخب العراقي؟.. وقد أشرنا وقتها إلى أن ذلك الاتفاق العجيب القصير أشبه بحلم منتصف ليلة صيف، وهي استعارة لاسم مسرحية كتبها شكسبير!

في التمهيد للبطولة، أدرك فييرا أنه يتعامل مع لاعبين قد لا تتوافر لديهم مناخات الإعداد السليم، لكنهم ـ وهذا أمر ثابت حد الرسوخ ـ يتوافرون على مواهب كروية لا تتواجد في الكثير من الدول العربية أو الأجنبية التي عمل معها، فضلًا عن اتسام أدائهم بالتحدي الذي يصعب معه الوصف.. ولهذا قــَبـِـلَ أن يعمل ولو في أجواء من التندر على مظهره، وهذه حقيقة يجب أن تقال الآن وأن يعتذر كل من عزف على نغمة البحث عن الاسم والشهرة والجسم الممتلئ، وهي صفات لا يمتلكها فييرا، بيد أنه يتعامل بعقله مع وقائع تجري أمام ناظريه على الأرض، فكان أسبق الجميع إلى النجاح، ولهذا كان في وسعه أن يضحك ملء شدقيه!

 ولكن النوعية لم تكن سببًا كافيًا لإحداث مثل هذه النقلة المدوية، ولعلنا نتذكر أن الإخفاق المريع الذي تمَّ في خليجي (18) جاء بصورة طبق الأصل من اللاعبين الذين مثلوا العراق.. كانوا أنفسهم من حمل عصا الرحيل من الدور الأول للبطولة وقد تركوا جروحًا غائرة في أنفس العراقيين.. 

السخرية من فييرا!

حين نعود إلى الوضع الفني والبدني والخططي وحتى النفسي الذي كان عليه المنتخب العراقي بعد البطولة الخليجية، لا نجد سوى آثار الإخفاق، ومع هذا وحين حدث التحول بوجود فييرا لم نجد سوى لغة السخرية من الرجل والتندر من أسلوبه، وقد تصدر هذه الحملة بعض المدربين المحليين المتضررين.. والمدهش أن هذه الحملة قد تواصلت حتى بعد فوزنا بكأس آسيا!!

كنت أرى أن المنتخب يسير بخطى ثابتة نحو التصحيح، ذلك ما يجب أن تقوله الوقائع لا الانطباعات التي تسودها المجاملة، ودعونا نفرض المستحيل في ضوء قراءة الواقع الآن بعد البطولة الآسيوية، ترى ماذا كان سيقال لو أن فييرا قد خرج مع اللاعبين أنفسهم بفشل مطبق مماثل من كأس آسيا على غرار ما حصل في البطولة الخليجية؟ 

ألم يكن الأولى بالجميع أن يصبّوا جام غضبهم عليه وعلى اللاعبين أنفسهم بوصفه وبوصف اللاعبين مفاتيح الفشل لو كان قد حصل بالفعل؟؟ 

من هذه النقطة بالذات كان لابد أن يُرَدّ الفضل إلى أصحابه، فيقال إن فييرا عمل مع اللاعبين العراقيين ما استفرغ من لاعب موهوب مثل يونس محمود أو نشأت أكرم أو قصي منير أو نور صبري أو باسم عباس أو مهدي كريم أو هوار ملا محمد أو حيدر عبد الأمير أو جاسم محمد غلام أو كرار جاسم أو علي حسين رحيمة أو هيثم كاظم أو أحمد عبد علي أو أحمد مناجد أو صالح سدير أو علي عباس أو محمد ناصر.. أفضل ما لديه كي يتحول الفريق العراقي من الصفوف الخلفية للبطولة الخليجية إلى الصفوف المتقدمة للبطولة الآسيوية.. 

حين وقف العراق على منصة التتويج الآسيوي، كانت القناعة بأنه منجز لن يتكرر في سهولة أو في المدى المنظور.. ولقد ثبتت هذه القناعة في ما بعد، بفضل تلك العوامل الفنية والنفسية والمعنوية والتدريبية التي اجتمعت لكي تحقق الاستثناء، أما فييرا فقد حمل عصا الرحيل من العراق مدربًا فقير الفكر كما صوّره الإداريون الذين كسّروا مجاذيفه وتلك ليست الحقيقة.. ولم يكن هذا الفصل مختلفًا عمّا حدث، أو سيحدث لغيره من المدربين الذين عملوا أو سيعملون في العراق! 

المصدر جريدة الصباح العراقية 

اترك ردا

Developed and designed by Websites Builder Ph:0449 146 961