مجلة … مراجعات فلسفية
ترجمة… وطن برس
في كل أدب المنفى، ثمة جرح يكتب ذاته، وذاكرة ترفض أن تموت. لكن قليلون هم أولئك الذين يملكون الجرأة على تحويل مقدمة كتبهم إلى نشيد جنائزي للوطن، كما فعل حسين خوشناو في “سيرة الاغتراب: حفريات في جسد المنفى”. هذه المقدمة ليست مجرد تمهيد، بل هي عمل أدبي وفلسفي قائم بذاته، يستحق أن يُقارن بمقدمات كبار أدباء المنفى العرب والعالميين: محمود درويش، إدوارد سعيد، جبرا إبراهيم جبرا، وإليف شافاق. الصدق الوجودي: حين يصبح الجرح هوية منذ السطر الأول، يعلن خوشناو أن ما يكتبه “ليس مقالاً، بل نشيد جنائزي للوطن”.
هذا الاعتراف المباشر يضع القارئ في قلب تجربة عارية من التجميل، حيث الجرح ليس موضوعًا بل هوية. إذا كان محمود درويش في “في حضرة الغياب” يبدأ من الحنين والغياب، وإدوارد سعيد في “خارج المكان” من الإحساس الدائم بالانفصال، فإن خوشناو يذهب أبعد: يكتب بيد “ترتجف من سكرات الذاكرة”، ويجعل من الألم مادة خامة للكتابة، لا يخجل منها، بل يحتفي بها. الحنين والذاكرة الحسية: تفاصيل لا تموت في نص خوشناو، الذاكرة ليست مجرد استرجاع للماضي، بل تفاصيل حسية تصنع الهوية: رائحة الشاي، صوت حجر الرحى، خرير الماء، رائحة التراب بعد المطر. هنا يلتقي مع جبرا إبراهيم جبرا في “البئر الأولى”، حيث الطفولة والحنين يصنعان ذاكرة لا تموت. لكن خوشناو يضيف بعدًا جديدًا: يجعل من الذاكرة الجسدية (المرض، الندبة) خريطة للحنين، في حين يكتفي الآخرون غالبًا بالحنين الروحي أو العاطفي. المنفى كجرح وجودي لا كمسافة جغرافية المنفى عند خوشناو ليس مكانًا، بل “انكسار وجودي” وفقدان للانتماء إلى “العالم-الحياة”، كما عند هايدغر. يتقاطع هنا مع إدوارد سعيد، الذي يرى المنفى حالة دائمة من عدم الانتماء، ومع درويش الذي يصف المنفى بأنه “آخر الأماكن”. لكن خوشناو يمنح المنفى بعدًا جسديًا وروحيًا، حيث المرض والغربة واللغة كلها تتحول إلى علامات على جسد الذات. نقد الذات والمجتمع: خيانة مزدوجة لا يتردد خوشناو في نقد السياسيين الكرد وخيانة النخب، ويعترف بخذلان المجتمع والمنفى المزدوج: عن الوطن، وعن الذات.
هذه الجرأة قلما نجدها في مقدمات أدباء المنفى الآخرين، الذين يكتفون غالبًا بالحنين أو النقد الرمزي. الكتابة كفعل مقاومة وطقس يومي الكتابة عند خوشناو ليست ترفًا ولا ملاذًا جماليًا فقط، بل ضرورة وجودية وطقس يومي للبقاء: شرب الشاي مع التين، سماع النشيد الوطني، لمس خريطة أربيل، ترديد القصائد. هكذا تتحول الطقوس الصغيرة إلى مقاومة ضد النسيان، وإلى إثبات للهوية في عالم يهدد بذوبانها. رسالة للأجيال: وصية من جرح لا يندمل في خاتمة المقدمة، يخاطب خوشناو أبناءه والشباب الكردي: “لا تبيعوا ذاكرتكم كما باعوا دمي”. هنا تتجلى وصية المنفى، لا كحلم شعري، بل كنداء واقعي من قلب الجرح. إنه يذكرنا بدرويش وسعيد وجبرا، لكنه يتفوق عليهم بجرأة الاعتراف، وصدق المواجهة مع الذات والمجتمع والتاريخ. خاتمة مقدمة حسين خوشناو ليست مجرد تمهيد لكتاب عن المنفى، بل نص أدبي وفلسفي يعرّي الذات والوطن، ويحوّل الألم إلى معنى، والحنين إلى مقاومة. هي وثيقة جديدة في أدب المنفى، تضع الجرح في قلب الكتابة، وتمنح الذاكرة جسدًا لا يموت، حتى في أقسى المنافي.