ادب وتراث

قراءة في وعي علي شريعتي “5 ــ 7 “

عبدالله خليفة – المنامة

يقود الوعي المذهبي بصورته الشمولية علي شريعتي إلى إنتاج مقولات العزل والإقصاء بدوافع نبيلة، بدوافع الدفاع عن المستضعفين والفقراء، فحين يطابق بين الإسلام والثورة المطلقة التي يجب أن تستمر مزيلة الفقر والجوع والاستغلال، ينطلق من وعي مثالي لا يضع الدين في الظروف الموضوعية التي ظهر فيها، فالثورة الإسلامية التي انطلقت للوحدة السياسية في جزيرة العرب، قامت على تحالف اجتماعي واسع بين تجار مكة المتوسطين والعامة وخاصة أهل البادية، وحين حققت الثورة أهدافها في تشكيل دولة، لم تعد تخص تحالفاً اجتماعياً مضطهداً، بل غدت معبرة عن كل طبقات المجتمع، الفقراء والأغنياء.

لقد تمت أسلمة المجتمع ككل، وبالتالي كان يُفترض أن تكون الخلافات الاجتماعية والفكرية، خارج المقولات الدينية، وأسس الدولة، وأن تطرح الأحزاب هوياتها الاجتماعية، فإذا كان الخوارج يعبرون عن رعاة الجزيرة وبدوها، فإن آخرين يعبرون عن تجار مكة أو أشراف المدينة، ولكن ذلك لم يحصل نتيجة لطبيعة الوعي السائد، فكل يقول إنه الإسلام الحقيقي، وغيره خارجه، وهكذا تنامت عمليات الصراع الاجتماعي والقومي عبر المقولات الدينية الشمولية، التي يريد شريعتي استمرارها بعد كل هذه المحن والدروس. كانت المشكلة هي الإيغال في التميز الديني، ففي المرحلة الأولى كان الاعتدال الديني سائداً، نظراً إلى غياب نظريات التكفير، ولكن ظهر أناس قلة يعتقدون ان الأمويين وبعض الأسر الغنية في الحجاز هم كفار، وخارجون عن الإسلام، بدلاً من أن يقولوا إنهم حكام ظالمون ومستغلون، لكن تلك القلة، وشريعتي يواصل نهجهم، اعتبروا هؤلاء المستبدين المستغلين غير مسلمين، فكان لا بد من التطرف في الدين، والتمايز الشديد عنهم، بحيث كان الإيغال في التعصب هو الموجات التالية. وهذا ما استفاد منه المسيطرون في كل طائفة وجماعة، حيث تدعي كل واحدة منها انها تمثل الإسلام، ويقوم أرباب هذه الطوائف بخلق الأسيجة حولها، وشحنها بالتعصب والمظاهر العبادية المتميزة، وشريعتي نفسه يقول:

“… واليوم لجأتُ إلى بيت فاطمة المهجور هرباً من أولئك الطواغيت وتلك القصور والمعابد والخزائن فوضعتُ رأسي على جدار هذا البيت ولم يخدعني منذ ألف وأربعمائة أي كافر ومسلم فإن في هذا البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين وزينب. إلا أنني أرى قوماً جعلوا من هذا البيت حانوتاً لمصالحهم وجعلوا من هذه الكعبة ــ القبلة التي حررتني قبل خمسة آلاف عام من الرق والجور والجهل ــ قاعدة للجور والجهل .”، ] نفسه، ص189 ــ 190 [. وهو يقول أيضاً: “نعم، لقد لعبت الأديان الرسمية دائماً دوراً طبقياً قذراً ضد الناس والإنسانية ولصالح الطبقات الحاكمة” ] نفسه، ص152[. وبما أن المذاهب الثورية تتحول إلى مذاهب رسمية، فتقوم بهذا الدور، فكيف السبيل إلى الخلاص؟ كيف نعيدها إلى إنسانيتها دون أن نفصلها عن السلطة الرسمية واستغلال الناس؟! إن شريعتي وهو يفصل الثورة عن الإنتاج المادي، يعلقها في فضاء ديني مثالي، فكيف يمكن تطوير المجتمع العربي الإسلامي الأول دون نمو التجارة والحرف وبالتالي نمو الاستغلال، لكن أي أشكال من الاستغلال يمكن أن تكون مغيرة ومحدثة للمجتمع؟ لقد اتجه العرب والمسلمون إلى الاستغلال السهل: الفتوحات والاسترقاق وعبودية النساء، بدلاً من تطوير الحرف والمصانع والعلوم، وحتى هذه ارتبطت بهيمنة الدول الشمولية على الخراج وإضاعته وتبذيره في المتع والترف الخ..

أي أن القوى الاجتماعية المتضررة لم تقم بالتوحد وجعل الموارد الاقتصادية موجهة إلى الإنتاج والعلم وللحاجات الطبيعية والعامة، وهكذا فإن الاستغلال الزراعي ومساربه نحو البذخ، وليس إلى التطور الاقتصادي، هو الذي قاد المسلمين نحو التدهور المذهبي والسياسي، ولو كان استغلالاً صناعياً، لكان الأمر مختلفاً. ألم يكن ذلك من مسئولية الفرق الدينية، التي وجهت نشاطها إلى المزيد من الغيب والعزلة، بدلاً من أن توجه وعيها لنقد الحياة وتوجيهها نحو التحديث والتصنيع والعلوم؟!

كاتب وروائي من البحرين 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى