ثقافة وفنون

الفنانة الجورجية روسودان خيزانيشفيلي: السرديات الشعبية مناسبة للرسم

*خالد خضير الصالحي/ البصرة :
تبدو تجربة الرسامة الجورجية (روسودان خيزانيشفيلي Rusudan Khizanishvili) تطبيقا عاليا، ونموذجا متفردا لفكرة ان الموضوع في العمل التشكيلي ليس في حقيقته الا مناسبة للرسم (وضع اللون على سطح اللوحة)، أو للخوض في الاشتغال التقني ذي الطبيعة الانزياحية للمادة عن مثيلاتها في الواقع المعيش، وقد تكون الرسامة في هذا مصطفة في الطرف الآخر المناقض للمتلقين الذين يواجهون التجربة الفنية بسؤال: ما الذي تعنيه هذه التجربة؟، بينما يبدو السؤال المختلف الأكثر جدوى الذي تتبعه (روسودان خيزانيشفيلي): كيف انجز الرسام اللوحة موضع المعاينة؟؛ فكانت رؤيتها هذه لجوهر العمل الفني موضع عناية شديدة في تجربة الرسامة خيزانيشفيلي، وموضع اختبار عملي، حينما لم تشكل المشخصات المستلة من الواقع وظائف سردية تضعف التجربة؛ حينما تسلب اللوحة قوتها التعبيرية وسرّيّة بنائها الداخلي.. بل كانت – تلك المشخصات – تشكّل صلة بصرية مع الواقع، او حيلة، او مناسبة للرسم، او سمها ما شئت؛ فمن خلال مشخّصات تحاول مقاومة ذوبانها التجريدي لتكتفي في النهاية بأن تتراءى شبحا بين طبقات الألوان المتراكبة؛ فظلّ شكلها المشخّص كامنا في اشد الأعمال تجريدية، وبقي المتلقي يشعر بروح المشخصات كامنة في اشد الأعمال تجريدا في تجربة هذه الرسامة الشابة التي شاركت قبل مدة، وضمن العديد من الرسامين، في سمنار أقيم في مصر وشارك فيه من العراق الرسام هاشم حنون.
يهيمن اللون الأبيض في اعمال الرسامة فيشكل جزءا من رؤية حداثية تقارب رؤية (كازمر ماليفج) الذي اكتشف فاعلية اللون الأبيض في الرسم التعبيري التجريدي الحديث حينما هيمن هيمن ذلك اللون باعتباره أساس الانقطاعات الشكلية في أعمال الرسم الحديث وفي اعمال هذه الرسامة.
تعيد (روسودان خيزانيشفيلي) إنتاج الدمى التي بدأ بإنتاجها الرسام الفرنسي جان دوبوفيه ولكنها تفارقه لانها تقصر عملها على الألوان التقليدية دون إضافات، او ملصقات او أية انزياحات تقنية خارج البراعة في تطويع اللون التقليدي: الألوان الزيتية او الاكريليك، بينما كان جان دوبوفيه لا يتورع عن استخدام أية مادة تقع تحت يده كالرمل والزجاج وغيرهما، وقد شكلت هذه الدمى لهذه الرسامة المشخّص الذي صار حقل تجارب تقنية: لونية وشكلية؛ فكانت الرسامة تذوّب تلك المشخّصات تارة خلف غلالات اللون، وتارة تذيب اللون في تلك المشخّصات؛ حتى تنتهي إلى لون أحادي ، بالأسود والأبيض مفجِّرة التباين اللوني (الكونتراست) الذي يشابه الكونتراست الذي يُؤسَّس عليه الفوتوغراف الأسود والأبيض، فلا يتبقى من اللوحة الا التباين والتداخل والامتزاج السرّيّ بين هذين اللونين، ولا تغدو الدمى والأشكالُ كلها الا مناسبة شكلية لاختبار جمالية هذين اللونين والطاقة التعبيرية لتفاعلهما.
لا تؤسس (روسودان خيزانيشفيلي) هندسة لوحتها على بنية هيكلية قارة ثابتة وتستعيض عنها بتركيب هيكلي (معماري) سري، يتخذ في كل مرة شكلا جديدا لا علاقة له بسابقاته من الأعمال، كما تستلهم الرسامة (روسودان خيزانيشفيلي) الحكايات الشعبية لامَّتِها جورجيا، فهي تبدو وكأنها كانت تستعير بعض السرديات الشعبية، التي لا يمكننا فك شفراتها، كونها أولا بعيدة عنا ثقافية، ثم لأنها تقع خارج اهتماماتنا في تلقي أعمال الرسم، التي تشكل سردياتها ليس اكثر من هامش على جوهر اللوحة المادي الذي تتقن هذه الرسامة الاشتغال عليه بإبداع لا حدود لبراعته فلا حاجة للوحتها في الاعتماد على السرديات، فتبدو وكأنها لم تضع في اعتبارها الموضوع الا باعتباره اختلاقا لصلة ما مع المحيط عبر المشخص.
تتجاوز المساحات اللونية عند الرسامة (روسودان خيزانيشفيلي) دون ان تتداخل، فتشكل سحنات لونية رقيقة، يتراءى بعضها خلف بعض، بينما يقوم الخط بتوضيح أشكال المشخصات بخط خارجي يعمل لصالحه فقط، وبذلك يتخلق واقعان ماديان بصريان مستقلان، ومتواشجان معا، واقع لوني تشكله السحنات المتراكبة على بعضها، وواقع خطي تشكله الخطوط والبقع المتناثرة التي توحي في أحيان كثيرة بالحركة.

* صحفي وناقد تشكيلي عراقي 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى