مقالات

أي مجتمع مدني بعد الربيع العربي؟

إذا سألت أحدا من الناس بعد تجربة الربيع العربي، عن صفة للمجتمع الذي يحلم بأن يكون ثمرة لثورته المظفرة، لوجدته يقول إنه مجتمع مدني. ولا  يهمه إذاك أن يستحضر النضال التاريخي العريق الذي شهدته العديد من المجتمعات، لأجل إرساء أركان المجتمع المدني، لأنه مجرد فكرة  المدنية، تخلق لديه  الاطمئنان على نظام الحكم السياسي  في دولته، وما يتْبعه من ضمان لحقوقه وحريته. وبالمقابل، فإن فكرة الدولة الدينية، ولأنها – واقعيا – تنظر إلى كل شيء من وجهة نظر دينية نصية، دون اعتبار للمتغيرات، فإنها تخلق النفور لدى الناس، لأن ما نعيشه في مثل هذا النمط من الدول، ما هو إلا تستر وراء الدين واستغلال لقوته في إخضاع العوام. وبالمثل، ينفرُ الناس من الدولة العسكرية، لأن العسكر من شروط بقائها و تسلطها، حتى إذا أراد الشعب إسقاطها، لو توفرت له الفرصة لذلك، حكم على أفراده بالموت الجماعي. إن ”المجتمع  المدني” ليس وليد ميدان التحرير، ولم يُوحِ به احتراق البوعزيزي، وإنما هو وليد فكرة الحرية. لكننا لن نتوقف عند هذه  النقطة، فالسؤال حول معنى المجتمع المدني وأصوله ومظاهره، صار ملحا، خصوصا، وأن مجتمعات الربيع العربي لم ترسُ بعد على أرض صلبة سياسيا وحقوقيا واقتصاديا.  فما جدوى المجتمع المدني؟  لا يثور شعب من الشعوب بلا مبررات، و لا تكون له الرغبة في إسقاط النظام السياسي الذي يحكمه، دون أن يكون هذا النظام قد انتهك كامل الحقوق التي بها يكون الشعب شعبا. هكذا نفهم أن ما يسمى بالربيع العربي، هو فرصة نادرة لإعادة صياغة أنظمة الحكم، وفق مبدأ الحرية الإنسانية، وما تقتضيه من حرية سياسية واقتصادية ودينية. لقد كانت الدعوة إلى ما يسمى بالدولة المدنية، رفضا صارخا لكل النزعات التحكمية، العسكرية والدينية، التي تنزع إلى تنميط سلوك الأفراد. وقد كان نموذج المجتمع المدني في أوروبا أساسا  للمدينة الفاضلة، المبنية على العقل وأخلاقياته، فهو ضرورة مرحلية أخرجت الناس من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية، المؤسَّسَة على التعاقد الاجتماعي بين الأفراد، الذين كان هاجسهم الوحيد، ضمان حقوقهم وحريتهم. فالمجتمع كما تصورته الكنيسة  في المجتمع الديني الأوروبي – في القرون الوسطى – هو مخطط إلهي يديره رجل الدين، ممثل الإله على الأرض، ولرجل الدين هذا، فيزياؤه  ورياضياته وفنه…، ومَن أنكر التعاليم الدينية مهما بلغ علمه، يكون في عداد الأموات. لكن المجتمع   المدني كما تأصل مع جون جاك روسو – على سبيل المثال- الحكم فيه للشعب، وهو من يمنح السلطة السيادية للهيئة السياسية، بموجب التعاقد الاجتماعي. وما على الحكومة سوى تطبيق القوانين التي صادق عليها الشعب. لقد تحولت قوة الأفراد إلى قوة القانون، كما تحولت حريتهم من طبيعية إلى مدنية، وصارت الأفعال محكومة بالقوانين التي اتفق عليها المجموع.
إن تطبيق القانون وضمان الحريات من أهم ركائز المجتمع المدني، ينضاف إليهما مبدأ التسامح الذي يجب أن يضعه الناس نصب أعينهم، فلا أحد يرغب في أن تصادَر حريته، أو أن يوَجَّه في  أسلوب حياته، فالمسؤولية كفيلة بأن تجعل الناس يختارون حياتهم ويقررون وجودهم، وينتقون مصادر  معرفتهم، و سبل حل مشاكلهم. وما دام الأمر على هذا النحو، فالاتفاق على القوانين، يجب أن يأخذ بالاعتبار أولا و أخيرا، اختلاف الناس و تعدديتهم الفكرية، و يسمح لهم، ببسط وجودهم.
يحتاج تجسيد المجتمع المدني على أرض الواقع في دول الربيع العربي، إلى مراجعة البنى السياسية      والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتهييئها لتلائم  التصور العام للمجتمع المدني، الذي لا يمكن تشييده  دون تحقيق الديمقراطية والنهضة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وحقوق المواطنين واستقلال القضاء وحرية التعبير وتمكين المرأة. وأي خلل في تفعيل هذه الأركان، يولِّد الاستبداد ويؤبده، لأنه يعمل تحت غطاء مدني. لذلك، تشهد الدول العربية أزمة تفعيل شروط المجتمع المدني. ويزداد الأمر سوءا، في غياب التوزيع المتكافئ للثروة بين الأفراد، والتأهيل الثقافي لهم، وهما عنصران، ما لم يتم الاعتناء بهما وبمقتضياتهما، فستظل الرغبة بالعيش في المجتمع المدني رغبة فئوية، ما يحول دون التحقق الفعلي لهذا النوع من المجتمع. لقد أبانت الثورات الشعبية في دول الربيع العربي، أن إرادة الشعب لا تُقهَر، وأن عمر الديكتاتوريات قصير جدا، وأن الناس هم الذين يصنعون نمط الحكم السياسي لبلدهم. بقي أن مجتمع الحريات، لا يولد من إسقاط النظام فحسب، بل هو بناء مستمر، تشارك فيه كل مكونات المجتمع وأطيافه، على أن يُؤهَّل كل الأفراد للمساهمة في تدبير الشأن العام، عبر مؤسسات ومنظمات مدنية. وكل إقصاء تحت الذريعة  الطائفية أو العرقية أو اللغوية أو الجنسية، يجب أن يُقابَل بقوة القوانين، تلك التي نتجت عن تصويت الشعب في انتخابات حرة و مسؤولة. وأخيرا، فبالرغم من اختلاف العوامل التي أنتجت المجتمع المدني في أوروبا، عن واقع دول العالم العربي، إلا أنه في القرن الواحد والعشرين، وفي ظل العولمة، صار ممكنا تهييئ المجتمعات بنيويا. فحتى أوروبا ذاتها لم تشهد الديمقراطية إلا في العصر الحديث، ولم تكن في بدايتها إلا استلهاما للتجربة اليونانية، التي أنهت عصر حكم الآلهة المتعددة، وشيدت مؤسسات سياسية تبث في قضايا الشأن العام بشكل عقلاني. حصل هذا الأمر في القرن الخامس قبل الميلاد، ما يدل على أن نجاح الحوار الحضاري  والثقافي أهم سبل تجاوز الأزمات التي تعيق اكتمال المجتمعات المدنية.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى