مقالات

لمن ولائي وانتمائي؟

كتب هاني الترك*

سؤال قد يواجه المهاجر العربي : هل الولاء والإنتماء لبلده الاصلي الذي هاجر منه ام لبلده الذي هاجر اليه؟
هذا السؤال واجهني منذ نحو اربعين عاماً في بداية استقراري في استراليا وشدّ انتباهي مؤخراً.
كانت وظيفتي في مكتبة المحكمة العليا في نيو ساوث ويلز Cataloger اي «مُفهرس» للكتب والقضايا والقوانين والتشريعات للمحكمة التي تخدم القضاة.
أُعلن في الصحف الاسترالية عن وظيفة مفهرس في القاعدة العسكرية السرية في ولاية جنوب استراليا.. ذات المهام والخبرة والمؤهلات للوظيفة .. ولكن مادة العمل الخرائط والخطط والوثائق العسكرية السرية.
تقدمت بطلب للوظيفة وطُلب مني الموافقة على اجراء بحث امني عن سيرة حياتي من قبل الاستخبارات الاسترالية فوافقت.. اذ ان مسيرتي الحياتية خالية من اي عنف او مخالفات للقانون سواء خارج استراليا ام داخلها.. لأني بطبيعتي اكره العنف والحروب والصراعات واميل الى السلم والتناغم والمحبة بين بني البشر.. وبعد اجراء البحث عني رفضوا تعييني.
كنت في ذلك الزمن في مقدمة المدافعين عن قضيتنا الفلسطينية العادلة.. ولا بد اني كنت معروفاً لدى السلطات بحماسي وكتاباتي في الاعلام نحو حبي لبلدي فلسطين والعروبة.. بسبب نشاطاتي مع ابناء الجالية الفلسطينية القليلة العدد في ذلك الزمن ومع الجالية العربية التي كانت متضامنة مع الجالية الفلسطينية ومع قضية فلسطين التي كانت قضية العرب الاولى آنذاك. ولكن من منطلق عدم العنف او الحرب او الصراع ولكن تحصيل الحقوق في الاراضي الفلسطينية المحتلة من خلال العصيان المدني.
سألني صديق وزميل انكلوساكسوني في ذلك الوقت : «افترض جدلاً ان حرباً وقعت بين استراليا والدول العربية مع مَن تصُّف وتدعم؟ .. قلت له: «هذا موقف صعب يا صديقي فأنا انبذ العنف والحروب ولكن عاطفتي تميل نحو الدول العربية.. فلم اشعر بولائي لاستراليا ولا حتى انتمائي للمجتمع الاسترالي.. هكذا بصراحة».
قال لي: «هذا بالضبط فإنك لن تحصل على المنصب الذي تقدمت له في القاعدة العسكرية.. وبالفعل لم احصل عليه.
لم اكن اشعر بانتمائي وولائي لاستراليا في ذاك الوقت والدليل على ذلك هذه التجربة:
اتصل بي احد القضاة اثناء عملي في قسم المعلومات لغياب مديرة المراجع في المكتبة يسألني هل ابنه محامي المرافعات Barrister الموجود في لندن قد مُنح في عيد الملكة على لقب Queen Councel -QC.
لم تكن الانترنيت او غيرها من الاتصالات الحالية في ذلك الوقت.. وكانت تصلنا صحيفة التايمز من لندن بالطائرة يومياً.. وبصفتي مفهرس لمحتويات المكتبة كنت اعرف مكانها بالضبط على الرفوف.. احضرت الصحيفة ووجدت فيها ان ابنه فعلاً قد مُنح لقب QC.
انشرحت اسارير القاضي للخبر المفرح ولسرعتي في العثور على المصدر وسط العدد الهائل من المعلومات والكتب والتشريعات والقوانين في المكتبة.
فسألني عن خلفيتي العرقية فقلت له «فلسطيني» .. هنا اجاب ضاحكاً اذا خطفت طائرة ومثلت امامي في المحكمة سوف أُبرئ ساحتك .. مع العلم كان الفلسطينيون يخطفون الطائرات من اجل التوعية بالقضية الفلسطينية ولم اكن ارتاح لتلك العمليات غير الانسانية نحو المدنيين.. فقلت له : «لن امثل امام القضاء لأنني لا اوافق على خطف الطائرات مع ان هدفها التوعية بالقضية الفلسطينية».
لقد كان الرأي العام الاسترالي والغربي الشعبي والرسمي ضد الفلسطينيين .. كانت كلمة فلسطيني تُرعبهم.. بالرغم اني كنت اعمل في وسط مهني يُعتبر ارفع مستوى مهنة في استراليا وهي مهنة القضاء.. الا انني لم اشعر بولائي وانتمائي لاستراليا في ذلك الوقت.
ولكن ما هو موقفي الآن بعد 45 سنة من استقراري في استراليا؟
الاسبوع الماضي جرت مباراة في لعبة الراغبي ليغ بين الفريقين اللبناني والاسترالي .. وكان عدد المشجعين للفريق اللبناني حوالي 22 الف من اللبنانيين الاستراليين.
معظم اعضاء الفريق اللبناني هم لبنانيون استراليون.. الا ان لاعباً استرالياً لبنانياً رفض الانضمام للفريق اللبناني.. هو جوش منصور.. وقال انه رغم اعتزازه بجذوره اللبنانية الا انه يفضّل اللعب مع الفريق الاسترالي ضد غريمه اللبناني.
ادانه جمهور المشجعين اللبنانيين وكلما لمست يداه الكرة كانوا يصرخون منددين به.. ولكنه لم يعبأ فواصل اللعب مع الفريق الاسترالي بكل فخر واعتزاز.
بصراحة تامة انا احيي منصور لأن قراره قائم على حرية الاختيار.. ويجب ان نتعلم ان الحرية هي اساس نجاح المجتمع الاسترالي.. طالما انها حرية تُمارس في نطاق القانون والاخلاق العامة.
والآن اجيب على سؤال:«لمن ولائي وانتمائي»؟
استراليا هي الدولة الوحيدة التي قبلتني مواطناً فيها بعد ان لفظني العالم العربي وتشردت بين الحدود باحثاً عن موطن يقبلني اثر هزيمة 1967.
استراليا هي التي تعلمت في جامعاتها وعملت في ارفع مؤسساتها.
استراليا هي التي انخرطت في مجتمعها وعقدت صداقات متينة مع بعض ابنائها.
استراليا هي ارض اولادي واحفادي.
استراليا بلد القانون والحرية هي التي منحتني الحرية طيلة سنوات استقراري في الدفاع عن قضيتنا الفلسطينية العادلة .. ولا زلت اواصل دفاعي عنها حتى تظل في وجدان اولادي واحفادي.
استراليا هي نفسها تطورت وتغيّرت عما كانت عليه منذ 45 عاماً حيث اصبحت مجتمع الحضارات المتعددة.
استراليا هي التي منحتني وسام الملكة اليزابيت تقديراً للإعلام ضمن رسالتي الاعلامية في الدفاع عن فلسطين والعروبة.
وبعد هذه السنوات الطويلة من عمري في استراليا استطيع ان اقول بكل صدق وثقة:
«ان ولائي وانتمائي لاستراليا مع اعتزازي بجذوري الفلسطينية».

كاتب وصحفي في جريدة التلغراف الاسترالية


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى