ادب وتراث

كمامات بوذا – قصة قصيرة

بقلم / وارد بدر السالم
***
يوم سافرتُ الى الهند للمرة الأولى، لم يخبرني أحد بأنّ بوذا ينتظرني في مطار انديرا غاندي في نيودلهي. وكان غريباً ومحرجاً لي أن بوذا القصير البطين بعظمته الروحية، وقد أطبق يديه كمسطرتين قصيرتين متلاصقتين. وانحنى برأسه الأصلع أمامي كالمذنب. كان بانتظاري بالرغم من تأخر الرحلة ساعة كاملة، بسبب الفوضى في المطار الرافديني التعيس.
كان من السهل عليّ أن أرى ضفيرة يتيمة تبزغ من يافوخه الأصلع وتسترسل خلف رقبته مثل ذيل. بينما بطنه تسبقه إليّ. وعيناه تبتسمان لقدومي المتأخر من تحت الكمامة العنابية التي يضعها على نصف وجهه.
قلتُ له: أنا حفيد جلجامش. وعمي الوحش أنكيدو. وخالتي سيدوري مخترعة النبيذ الرافديني في حانة بابل.
رفع رأسه العريض وما تزال يداه مطبقتين أمام وجهه كالعُرف الضخم.
سارعتُ بالقول : وُلدت في حانة خالتي سيدوري كما يولد النبيذ من العنب الأسود.
ابتسم الحاج بوذا. بعيني ديك جبلي. لمّاعتين يتحرك فيهما تاريخ لم يكن باستطاعتي أن أدرك ما فيهما. وفتح العُرف المُطبق حتى استقامت يداه على جانبيه. بينما بطنه المنفوخ تساوى مع جسده القصير.
قال بألفة : قبل قليل ودّعتُ جدك جلجامش وعمك الوحش أنكيدو.. ذهبا الى بلاد الأرز يقاتلان خمبابا. فدعوت لهما بالنصر والسلامة.
ثم أكمل : خالتك سيدوري. بقيت في الحانة تغذّي الزبائن بالنبيذ الرافديني.
رفّ قلبي قليلاً.
أمسك بيدي اليسرى وقادني قليلا.
– هل سينتصران هذه المرة ؟
بينما كنت أتساءل كان بوذا يتساءل هو أيضاً :
– لماذا يتركان خالتك الجميلة سيدوري في الحانة وحدها؟
صار بوذا أكثر ألفةً. كان وجهه الأحمر بلون ثوبه العنّابي وعينا الديك فيهما تتحركان كخرزتين ثمينتين. فيما كانت صالة المسافرين تكتظ بالضجيج وفوضى الحقائب.
استدقت عيناه بعيني. كأنما يستفهم مني. فقلت متشجعاً:
– جئت لأقابل الأميرة ممتاز محل. أباركها بالحب العظيم.
مطّ شفتيه :
– وما الرسالة من هذا ؟
– كلمتني قبل يومين في الواتس اب وقالت أنها تشتاق الى عطرٍ رافديني.
أخرجت موبايلي الحديث من جيبي، بأصابع ترتعش قليلا وأنا ألهث :
– سأريك رسالتها.
اقترب وجهه من الشاشة الصغيرة. كان عطر الهمالايا في جسده يجتاحني.
– انظر.
لم ينظر.
عرضتُ عليه الشاشة فقرأ في عينيّ رسالة ممتاز محل بهدوء مرتين. ثم وهو يسحب وجهه:
– وهل جلبتَ لها العطر الرافديني ؟
أخرجت من جيب سترتي قنينة صغيرة بحجم الاصبع تقريباً. كانت محكمة الإغلاق.
قال بوذا الأصلع:
– لعله خلاصة عطور البطائح في جنوبكم.
قلت له :
– أنا أبحث عن عاشقة تاج محل.. الأميرة الصغيرة لأودعها الهدية كما طلبتْ.
همهم قليلاً والتفت الى مساعديه الذين يشبهون البطاريق العنابية بصلعاتهم البيض وضفائرهم التي تنتصفها كالخراطيم.
– سيزاحمك 14 ولداً أنجبتهم الأميرة الصغيرة. ولو أنها لم تمت لكانت قد أنجبت 14 آخرين.
أضاف :
– رحمُها غابة من الانجاب.
– أوليس هذا هو الحب يا حاج؟
– الأميرة لم تكن من الأنس ولا من الجان ولا من الملائكة.
تمتمتُ : انها أسطورة بلا شك.
أردف الحاج بوذا وعيناه ترتفعان الى السقف المعبّأ بالأضواء البارقة :
– الأميرة ممتاز خان ولدت من ضوء القمر لذلك هام عشقاً بها الملك جيهان.
تساءلتُ ببطء :
– وكيف حاله عندما ماتت أميرته الجميلة؟
– مات القمر فيه والكواكب والمجرات .حتى السماء ماتت وبقي الرجل حبيس مرآة يرى فيها أميرته كل يوم.
لم تقل لي الأميرة شيئاً عن الملك العاشق. لكنها قالت: سترى دموعي في تاج محل. كل يوم أذرفُ دمعة واحدة. في منتصف النهار.. انظر الى السقف في منتصف النهار وسترى دمعتي اليتيمة تسقط في حوض أبيض من المرمر.
لم أخبر بوذا بهذا. فهو العريف العارف بكل شيء.
قادني الى خارج المطار حيث المطر يشق جلد غيمة ثقيلة ويهطل بغزارة.
– بي رغبة أن أرى تاج محل.
– لترى دمعة الأميرة الوحيدة في منتصف النهار ؟
– تماماً.
– هو ضريح ما بعد الحب.. وعلى كل عاشق ان يبني تاج محلّه.
– ما داهمنا عشق كهذا الذي نراه في سيرة الملك وسيرة الأميرة الصغيرة.
– شيّد تاج محلّك في رأسك في الأقل.
– شيدته لامرأة. لكنها لم تنجب الا غرباناً صغاراً.
وضع بوذا يده على كتفي ومال قليلاً عني كأنه يكلّم غير.
كنتُ أتأمل ضفيرته التي تشبه ذيل حصان ساكن.
قال: دعني أفتش رأسك.
انزلتُ رأسي وفتشه لحظة بلحظة . قلّب أزماني القصيرة والطويلة. قال بأنه يرى جثثاً صغيرة. ولا توجد عاشقة واحدة.
اعترضت بهدوء : لابد وأن عاشقة واحدة في رأسي في الأقل.
تناول بوذا رأسي وفتح فيه ممراً الى الذاكرة. وأراني في تجويف نائم صوراً متعددة لنساء نسيت الكثيرات منهن.
قطّب حاجبيه. وامتعض قليلاً أو كثيراً.
كان المطر يخفت الى حد ما . وانزاحت الغيمة الثقيلة من سماء المطار.
صافحني بوذا وهو شبه مبلل.
في بوابة المطار المزحم بالمسافرين. البستني حاشية بوذا ثوبه العنابي القصير. وقالوا : جدك جلجامش وعمك أنكيدو لا زالا يقاتلان خمبابا.. ادعُ لهما بالسلامة والنصر.
خرج بوذا عارياً من المطار. ألقى بكمامته العنابية على الأرض. ..وطار. تتبعه ضفيرته السوداء كذيل طويل. وصار من الصعب عليّ أن أراه وهو يحلّق بعيداً. بينما كانت يدٌ سمراء تلوّح لي أن أهرع اليها قبل أن تمطر من جديد. فتتبعتُ اليد الممدودة بين زحام المسافرين وأنا أسحل حقيبتي.
كانت خالتي سيدوري قد تركت حانة النبيذ الرافدينية على ما يبدو.
21-9-2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى