مقالات

حكاية طبيب نفساني !

     زيد الحلّي

لي صديق تخصص بعد تخرجه في كلية طب بغداد بالأمراض النفسية ، كلفه هذا الاختصاص سنوات عدة من الغربة والجهد والصبر والمثابرة .. وبعد نيله الشهادة العليا ، عاد الى الوطن من انكلترا ، فرحا مسرورا بهذه الشهادة ، فالتحق بإحدى المستشفيات اختصاصيا ، بدوام كامل ، يبدأ من الساعة الثامنة صباحا ، حتى الثانية بعد ظهر كل يوم .

هيأت له المستشفى غرفة مناسبة ، لكن اصبحت بمرور الايام مكانا للقاء زملائه الاطباء المقيمين والاختصاصيين ، وايضا اداريي المستشفى لاحتساء الشاي والقهوة وتناول الساندويشات وقراءة الصحف ، إذ لم يدخل هذه الغرفة طوال اشهر عديدة  ، سوى مريض واحد ، جاءه خطأ حيث كان يعاني من دوار ، فتوقع ان الدكتور ( … ) هو المتخصص بصرف الدواء لـ ” دواره”!

نصحه عدد من اصدقائه، وانا منهم ، للسعي لفتح عيادة خاصة ، فربما يخجل المرضى النفسانيون من مراجعة المستشفى لعرض حالتهم امام مئات الاشخاص .. اقتنع الرجل بالفكرة ، وعلى بركة الله فتح عيادة ، بمواصفات حديثة ، راجعها في الاسبوع الاول شخصان ، وفي مدة عام كامل لم يكن عدد مراجعيه  تجاوز الثلاثين .. لكن طبيبنا استمر يدفع ايجار عيادته واجرة السكرتيرة وفواتير الماء والكهرباء ، وايضا يدفع من عمره يوميا اربع ساعات انتظارا لمرضى … دون جدوى !

ولأنه عنيد ، فقد قرر ان يصرف من راتبه ” الحكومي” على عيادته الخاصة ، واخذ ” يستلف” من زوجته التي اختصت في ( السونار) شهريا لقضاء احتياجاته والتزاماته … تنبه الابناء الى حال ابيهم التي لا تسر ، لكنه ظل صامدا يداري خجله في ضحكات يتقاسمها مع زوجته وابنائه.

غبتُ عن صديقي ، او هو غاب عني ، لا اتذكر .. وفي احد صباحات الاسبوع الماضي ، لمحته قرب احد الاسواق الكبيرة ، تاركا سيارته الفارهة .. وبعد السلام وكلمات المجاملة سألته عن حاله ، فأجاب ضاحكا ، مسرورا : الحمد لله ( من صبر ظفر) .. قالها بملء الفم ، موضحاً ان عيادته توسعت وازدهرت .. حتى انه اصبح لا يستقبل المرضى إلا بموعد مسبق .. وقد تمتد المواعيد لأسابيع .. ورفع ثمن ” الكشفية” لتصبح اربعين الف دينار ..

قلت له مبتسماً : حدثني .. كيف انقلب الحال ؟

قال : ان الوضع ( النفسي) للمواطن تأزم بشكل كبير نتيجة اخبار ” كورونا” وتدهور المستوى المعيشي ، وزحام المواصلات وكثرة وتناقض الاخبار السياسية ، وحوارات الشد والجذب التي تجري في وسائل الاعلام للمسؤولين ، ومئات التصريحات التي توجع الدماغ ، وغلاء اسعار البضائع ، وبطالة الخريجين ، واقساط المدارس والكليات الاهلية وغيرها من مزعجات الحياة … الا ترى ان كل ذلك يسبب انفجارا ( نفسيا) عند الناس ، وليس ( وعكات) نفسية !

فقلت في نفسي ( رب ضارة .. نافعة ).

Z_alhilly@yahoo.com

عمودي ( فم مفتوح .. فم مغلق) في صحيفة الزمان الدولية


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى