سفّانة الديب / اعلامية من سورية

في عالمٍ تتصدّره عناوين الكراهية ، وتُختزل فيه الهويّات إلى قوالب ضيّقة ، يظهر أحياناً حدثٌ واحد كفيلٌ بأن يُربك كل السرديّات الجاهزة، ويعيد تعريف الإنسان خارج دينه ولغته ولونه وجواز سفره .
ما فعله أحمد الأحمد على شاطئ بونداي في أستراليا، لم يكن مجرّد عمل بطولي بالمعنى التقليدي ، بل كان لحظة إنسانية خالصة ، كسرت منطق الهويّات القاتلة، وأعادت الاعتبار لهويّة واحدة فقط : هويّة الإنسان .
أحمد ، ابن قرية النيرب في ريف إدلب ، القادم من بيتٍ أنهكته الحرب وتركته بلا أبواب ولا نوافذ ، لم يسأل عن ديانة الضحايا ، ولا عن خلفياتهم ، ولا عن انتماءاتهم ، في لحظة الخطر تحرّك بدافعٍ واحد .. إنقاذ الأرواح .
تقدّم نحو أحد المهاجمين ، جرّده من سلاحه ، وأُصيب برصاصات كادت تودي بحياته… لكنه أوقف المجزرة .
هذا المشهد وحده ، كافٍ ليفضح زيف السرديات التي تربط العنف بالهويّة ، أو تختزل الإنسان في انتماءٍ واحد .
أحمد، السوري، المسلم، اللاجئ السابق، ربّ العائلة، تحوّل في لحظة إلى بطل أسترالي، لا لأن الإعلام قرّر ذلك، بل لأن فعله سبق أي تعريف .
في مقالٍ سابق لي عن “الهويّات القاتلة”، استندتُ إلى ما قاله أمين معلوف :
“الهويّة مؤلّفة من انتماءات متعدّدة، ويكفي أن يُنتهك انتماءٌ واحد لينفعل الإنسان بكل كيانه .”
لكن ما فعله أحمد يذهب أبعد من ذلك ، هو لم يدافع عن أيّ انتماء ، بل تجاوزها جميعاً. لم يتحرّك باسم هويةٍ فرعية، بل باسم إنسانٍ يرى إنساناً آخر في خطر .
المفارقة المؤلمة أن ضحايا النزاعات والهجمات القائمة على الهويّة هم دائماً أبرياء ، بينما تختبئ خلفها سياساتٌ ونزعاتُ نفوذٍ ورغبةُ سيطرة. وحين تُرفع شعارات الدين أو القومية أو العرق، غالباً ما يكون الإنسان هو الخاسر الأول .
قصة أحمد الأحمد ليست قصة فردٍ استثنائي فقط، بل دليل حيّ على أن المجتمعات المتعدّدة قادرة على إنتاج نماذج إنسانية جامعة، حين تُبنى على المواطنة، لا على الإقصاء .
ولهذا ، لم يكن غريباً أن يشيد رئيس الوزراء الأسترالي بشجاعته ، وأن يتحوّل إلى رمزٍ يُلهم الأستراليين ، كما يفخر به أبناء بلده الأم في سورية .
ولكن هنا تظهرالمفارقة المؤلمة أن العالم يُفاجأ حين يقوم “الآخر” بما كان يجب أن يكون بديهيًا : أن يحمي الأبرياء ، وأن يختار الحياة ، وكأنّ الإنسانية أصبحت استثناءً ، لا قاعدة .
قصة أحمد الأحمد ليست قصة بطولة فردية فقط، بل مشهد إنساني يضعنا أما أسئلة مفتوحة وخيارات مصيرية ..؟
هل نريد مجتمعات تُعيد إنتاج الخوف والهويات المغلقة؟
أم نريد عالمًا يُكافئ الإنسان عندما يتصرّف كإنسان؟
وبالتالي إمّا أن نستمر في إعادة إنتاج الهويّات القاتلة التي تبرّر العنف وتغذّي الخوف ..
أو أن نعيد الاعتبار لهويّة إنسانية جامعة، تُحوّل الاختلاف إلى غنى، لا إلى سببٍ للقتل .
من النيرب إلى بونداي ، أثبت أحمد الأحمد أن الإنسان، حين يختار إنسانيته أولاً، قادر على هزيمة الكراهية… ولو بيدٍ عارية .





