بقلم الدكتورة بولدراس صراح*
في عصر تعتبر فیھ المعرفة أثمن رأسمال تمتلكھ الأمم، أصبح التلاقح العلمي ، والاستشراف من أھم محركات التحول الحضاري في القرن الحادي والعشرون، فھما
لیستا مفردتین آكادیمتین فحسب، وإنما نھجا فكریا یعید رسم علاقة الإنسان بالعلم والمستقبل.
بصفتي أستاذة باحثة في علم السكان، أرى أن التلاقح العلمي لم یعد أمرا اختیاریا، بل أصبح ضرورة ملحة تملیھا التحولات المتسارعة التي یشھدھا العالم سواءا في المجال الدیموغرافي أو البیئي أو الاقتصادي.
لم تعد الدیموغرافیا الیوم، تقتصر على حساب معدلات الموالید والوفیات الخام، ومعرفة تطور عدد السكان خلال مدة زمنیة معینة، والتوزیع السكاني حسب النوع والعمر، ورسم الأھرام السكانیة والرسومات البیانیة، بل تطورت لتلتقي مع علوم البیانات الضخمة والذكاء الاصطناعي والاقتصاد السلوكي في بناء نماذج استشرافیة بلغة النمذجة المعاصرة التي تنبھ صانع القرار إلى ما یكمن وراء الأرقام.
ھذا التكامل المعرفي ھو ما یحول العلم من مجرد وصف جامد إلى قوة موجھة نحو الفعل والتأثیر
أما الاستشراف، فیبرز كمنھج علمي یمارس التفكیر في المستقبل، لا بوصفھ غیبا مجھولاـ بل مجالا یمكن استكشافھ من خلال سیناریوھات منھجیة دقیقة، فعندما نحلل
الاتجاھات السكانیة المستقبلیة، كشیخوخة المجتمع أو تحولات الھجرة، أو التحول الحضري السریع، نحتاج إلى أدوات استشرافیة قادرة على التكیف مع ھذه التطورات
برؤیة استباقیة للتحدیات الناشئة في جمیع المجالات ، لقد أصبح التلاقح العلمي بین العلوم السلوكیة والتكنولوجیة والاجتماعیة مساحة خصبة
لتولید أفكار إبداعیة تغیر طرق فھمنا للوجود الإنساني، فعندما یشارك عالم السكان في مشروع بحثي مع خبیر في علوم الأرض وتھیئة الحضریة أو متخصص في الذكاء
الاصطناعي، تتشكل منظومة معرفیة تتجاوز حدود التخصصات لتنتج معرفة أكثر شمولیة وقدرة على التوجیھ.
یعلمنا التاریخ أن الحضارات لا تزدھر بالعلم المنعزل، بل حین تفتح أبواب التفاعل بین میادین المعرفة المختلفة، والیوم، نقف أمام لحظة فاصلة تتطلب استثمار التلاقح العلمي كأداة لإدارة التحول الدیموغرافي والتنموي، والاستشراف كأفق لتصمیم المستقبل ، الإنساني بعقل یقظ ومسؤول.إن تبني ھذا المنھج المتكامل یمكننا من بناء رؤیة مستقبلیة أكثر دقة وعمقا تسھم في صناعة قرارات إستراتیجیة مدروسة تواكب التطورات المتسارعة في عالمنا المعاصر ، فالمعرفة، إذا لم تتلاحق، تذبل، وإن لم تستشرف، تتأخر عن الزمن.
- أستاذة وباحثة جزائرية في علم السكان بجامعة وھران 2محمد بن أحمد، كلیة العلوم الاجتماعیة
وعضو في مخبر استراتیجیات السكان والتنمیة المستدامة.