مقالات

النضال أو الفساد

عبدالله خليفة*

لاحظ الملكُ الأردني الراحلُ، الملكُ حسين شيئاً غريباً متناقضاً يبعث على حيرته وأسفه فقال: إنني كلما بعثتُ طلبةً للمعسكر الاشتراكي عادوا إليّ مرنين مطيعين، وكلما أرسلتُ طلبةً للمعسكر الرأسمالي عادوا إليّ متصلبين مناضلين!
بطبيعة الحال لم يقرأ الملكُ الراحلُ إشكاليات التطور التاريخية، وهو رجلٌ نافذ البصيرة، دقيق الملاحظة، فما بالنا بالراصد التسجيلي البسيط.
لم يقرأ الملكُ الإشكاليةَ العميقةَ فيما أسماه المعسكر الاشتراكي، فهو ليس معسكراً إشتراكياً، هو أنظمةٌ رأسمالية عامة، غابت منها الحرياتُ والمراقبةُ الشعبية والصحافةُ الحرة الناقدة، وخضع لأدلجةٍ متضادة، فيها نضالٌ وهيمنة شديدة، وفيها إنتهازية وإستثمار للجو في المكاسب الذاتية، وقد خلقَ هذا التضادُ طلبةً في حالاتٍ عديدة مختلفة، بين الإستمرارِ في صلابتِهم الوطنية التي جاءوا بها وكرسوا أنفسهم للتطور في الدراسة، وبين التضحية الكبيرة كما كان يفعل الطلبةُ الفيتناميون الذين يتبرعون بجزءٍ من مخصصاتِهم لبلدهم الذي يجابهُ هجمةً إستعمارية شرسة.
العديد من خريجي هذه الدول أحضر شهادات ومعرفة كبيرة، وواجه مشكلات خطيرة في دوائر الشرطة التي أعتبرتهم عناصر خطيرة ومناضلين رهيبين، بينما هم طلبة فقراء وجدوا فرصةً للدراسةِ المجانية في تلك الدول، والبعض الذي يخاف منهم يتبرأ تبرؤاً كبيراً من هذا الإنتماء المزعوم ويعترف ويكتب الكثير بتزوير أو بمحاولة لرشوة الشرطة والتعاون معها.
أما المناضلون الحقيقيون فيعانون كثيراً من تسلط هذه الأدوات العنيفة ضدهم، والتي تحاول تحطيمهم بأي شكل، وثمة أناس يتحطمون، وثمة أناس قليلون يقاومون إلى درجة رهيبة وحتى الاستشهاد.
إن الأغلبيةَ طلبة عاديون جرتْ بهم الظروفُ في الحرب الباردة، وكانوا على المسرح المضاء بيافطات النضال المُبهرة، والعديد من الجمهور العادي ينبهر بهم ويرفعهم لمقام الأولياء، لكن التاريخ يكشف إنهم أناسٌ عاديون مثل غيرهم من الخريجين لكن تسلطتْ عليهم في بلد الدراسة الإيديولوجية الشعارية الصارخة، وتسلطت عليهم في بلدانهم الأصلية القبضاتُ الحديدية.
والتناقض في هذا إن البلدان (الاشتراكية) أعطتهم فرصاً ذهبية ومعيشةً جيدة، فأسترخى البعضُ وظهرتْ إغراءاتٌ كبيرةٌ من اللهو والعلاقة بالدولة، فحدثت أنانيات وإنتفاخات وتزييفات، مضادة للروح النضالية المطلوبة، في حين إن البلدانَ الرأسمالية التي
إستقبلتْ الطلبةَ العاديين غيرَ الرسميين لم تكرسْ نمطاً طلابياً سياسياً أو تميزه عن غيره، وواجه حقيقةَ الرأسماليةَ العاريةَ الصلدة، بما فيها من إستغلال بشع ومساواة كذلك ليس فيها أثرة أو تميز، وبما فيها من حرياتِ القولِ والتظاهر والنقد للمؤسسات الحاكمة وللجامعة وللسلطات والبرامج وهذا ليس هو المناخ في المعسكر الآخر.
وذلك القادمُ من البلدان(الإشتراكية) أكتسبَ خوفاً من بلدانهِ العائد إليها وطمعاً في التسلق إلى مراتبها العليا كما شعر أثناء دراسته، وعاش ظروفاً إنعكس فيها فسادُ تلك البلدان الشرقية عليه وبغيابِ الحريات والنقد فيها، فتناقضتْ الاراءُ والنفسيات وتشوه البعضُ منها، وظهرت الطبائعُ الحقيقية بعيداً عن الأدلجة المؤقتة، وتمددتْ بين صلابةٍ نادرة ورخاوةٍ منتشرة واسعة، وجاءت مطارقُ الدولِ التي ينتمي إليها بين الترهيب والترغيب، فلم تصمد إلا القلة، ولهذا يصطدمُ البعضُ لهذا التناقض بين خريجي الكتلتين العالميتين المتصارعتين وقتذاك، وكأن العائدَ من الدول الإشتراكية ينبغي أن يكون جيفارا والعكس صحيح، وذلك بسبب الدعايات والمؤثرات الإيديولوجية، ولا يُنظرُ للواقع الحقيقي، فهؤلاء طلبة عاديون تعرضوا لحالةٍ باردة عسلية ظنوها أبدية، ثم تعرضوا لحالةٍ نارية كاسحة، ففصلتْ الحَب عن القشور.
ولهذا كله وجدَ بعض خريجي الدولِ الرأسمالية أنفسهم يناضلون حقيقةً ضد الرأسمالية وهم الذين كانوا لا يخافون من العودة لبلدانهم، ويعملون بشكل قانوني للوصول إلى ظروف أفضل، بينما وجدَ بعض خريجي الدولِ (الإشتراكية) أنفسهم يناضلون من أجل الرأسمالية الخالصة وأحياناً بشعاراتٍ إشتراكية!

  • كاتب وروائي  من البحرين 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى