ثقافة وفنون

الرسامة العراقيَة هناء مال الله تعرض ( فن الخراب ) في معرضها في لندن

تعتبر الرسامة العراقيَة هناء مال الله واحدةً من اهم رسامي “جيل الثمانيناتِ” في العراق، وهو الاسم الذي اطلقه نقاد الفن على الجيل الذي نضجِ في اتون الحروب: الحرب العراقية الإيرانيةِ (1980 -1988)، وبِدايات حرب الخليجِ الأولى التي جاءت بعد دمجِ الكويت مِن قِبل صدام حسين في 1990، وهم مجموعة فنانين قرّروا البَقاء والدِراسَة، ومُزَاوَلَة فنونِهم في العراق، وقد ادى تقييد حرية السفرِ، والصعوبات الإقتصادية، وعدم الإستقرار الإجتماعي وَالنِزاع المُسَلَّحِ المستمرِ إلى عزلةِ خانقة أَثّرتْ على العمليةِ الابداعيةِ؛ فانعكسُت مواقفهم في أعمالِهم الفنية. ويعتبر فنانو “جيل الثمانيناتِ”، مِنْ وجهةِ نظر تأريخِ الفَنِّ المُعاصرِ، حركةَ فَنِّية، أَو ربما مدرسة ذات أهمية كبيرة.
تتلاحق تحولات هناء مال الله في اتجاهها الذي بدأته قبل سنوات، والذي اسمته (فن الخراب)، حتى يصعب على النقد دمج تلك المتلاحقات الا ضمن منظومة اوسع من مفهوم الخراب، فربما ومن خلال معايشة العراقيين لما تخلفه الحروب عادة، فقد استحكمت منظومة (الموت) كأعظم الاسئلة الوجودية التي يواجهها العراقيون يوميا، وواجهها الانسان منذ وجوده وحتى الان، فخلال السَنَوات الخمس الماضية تَأمّلتُ معيشتها كلاجئة في البلادِ ذاتهاِ التي لعبت -على الأقل جزئياً- دورا في احتلال العراق واتمام دائرة انتاج الخراب؛ فكانت هناء مال الله تواجه الاوساط الثقافية بما اختزنته ذاكرتها من اثار خراب الحروب، والتي بدات تتوسع الى رؤية فلسفية ذات جذور ثقافية صوفية تتعلق بمواقف الانسان في مواجهة السر الاعظم في الحياة وهو الموت.
لقد ادركت هتاء مال الله ان الرسم قضية بصرية لا تتسع في النهاية الا للبصريات والماديات التي تخلق البصريات، وهو ما ادركته هناء مال الله باحترافية عالية حينما حولت فكرة الفناء في اعمالها الى معالجات لمواد صلبة؛ لاعتقادها ان الفناء يضرب الصلب المحسوس ليخلق إحساسا بفاعليته التدميرية، فكما يحاول الانسان تحويل فعل الزمن الى سرد او تاريخ ليعطيه ملموسية، فإن هناء مال الله تحاول انتاج العكس حينما تستخلص من الصلب الذي تآكل بفعل فنائه إلى سرديات ورؤية فلسفية تعبر بها عن إحساسها تجاه التدمير الذي يطال الإنسان كما يطال المادة الملموسة متجها بها إلى الفناء..
تشكّل هناء مال الله رؤيتها من خلال أعمال تسميها (الحافة الحساسة)، وهي مرحلة حرجة بين التشخيص والتجريد، وهي اعمال غالبا ما تكون ثلاثية الابعاد وتريد ان توصل عبرها ان كل شيء صلب وهو هنا محسوب بحكم صلابته على التشخيص ممكن ان يتحول الى تجريد بقوة الفناء… فهي تقتنص لحظات التحول تلك بين الوجود الصلب وبين الفناء التجريدي، ان هناء مال الله، وعلى خلاف غيرها من مجايليها، تعيش تجربتها كرؤية روحية تعالجها من خلال المادة التي تشتغل عليها…
لقد تركت الحرب ندوبا كبيرة داخل هناء مال الله بحكم التماسّ المباشر مع اثارها المدمرة، فأيقنت أنّ الخرابِ جوهرُ الوجود او مآله الحتمي، وان الصلابة (الموثوقة) يُمْكِنُ أَنْ يُتحوّلَ الى (لا شيء)ِ خلال اجزاء من الثانية. وهكذا ترسخ عندها يقين عبر الإسْتِنْتاج بأن الخرابِ هو اللحظة الحاسمة بين التشخيصِ والتجريدِ، بين إلوجود والِفناء, وهو مفهوم تعتبره ذا معنى روحيَ عميقَ أيضاً. وتعتبر تقنيةِ الخرابِ ناتج الوجهِ القاتلِ للحربِ، وانها استعادة وإنتاج لفكرةَ الحربِ وفعلها التدميريَ وفي اعادة انتاج التجربةِ العميقةِ لحقيقةِ للحربِ بصرف النّظر عن طبيعتها الجغرافسياسية او الجيوبوليتيكية.
تفيض الاعمال الفنية المحروقة، والممزّقَة، والمخَدشَة، والمجمّعة، في أغلب الأحيان، من مصادر متفرقة، برائحة الدخانِ، وبلون السخام، وكلها تجسيدات بصرية تقوم مقام التلميحات المؤلمة لدمارِ وطنِها، وتُوصلُ رسالة عابرة للجغرافيا وللتاريخ معاِ، فكرة تؤكد ان الخراب جوهرُ وجودي للوجود، وليس للموت، او بمعنى اوسع (الاندثار) الا حقيقة كل مادة صلبة تبدو من النظرة السطحية متماسكة فاذا بها يمكن خلال اي قدر من الزمن متناهيا في الطول او في القصر، تتحول الى هباءة، وهو ما تحاول ان تقدمه في اعمالها التشكيليِة التي تقع في لحظة التحول القلقة بين الوجود وبين الفناء، اي بمعنى تشكيلي تقف بين التجريد والتشخيص.
تقول هناء مال الله في حوار لنا معها عبر النت: “ان فكرة مفهوم الخراب الذي كان جزءا رئيسا من تجربتي الحياتية والفنية في العراق، والذي كنت اقترب منه محليا كمفهوم لصيق بجغرافية معينة (العراق) ميسوبوتاميا، وكأنه قدر مستدير التعاقب على العراق ولا يمكن الفرار، او الخلاص منه، بدأت اعيشه كمفهوم عالمي بعد خروجي من العراق، واستقراري في مدينة عالمية رأسمالية مثل لندن، حيث معاملتنا كأدوات، او بالأحرى وقود لإدامة وضعنا في خانة هوامش مجتمع العولمة الرأسمالي، واعتقد ان للفن العالمي المعاصر الان وتسويقه دورا كبيرا في هذه اللعبة العالمية للخراب، واقصد بذلك ان ما ينتج في الفن العالمي الان ليس الا انعكاسا صادقا لجوهر الخراب الذي نعيشه، والذي تغذيه الرأسمالية وثقافتها التافهه مثل اميركا. هذا ما يجعلني استشعر حافة الخراب في كل شيء اعيشه حتى وان كان في لحظات سلام”.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى