ادب وتراث

اللوحة قصة قصيرة بقلم الكاتبة ميسون خليل

ميسون خليل

كتبت هذا العمل عام 2002 عندما كنت اعمل في اذاعة المعارضة العراقية ضد النظام السابق ….

واظن أنني ما زلت معارضة لانني احلم بوطن ينصف الفقراء …… 
الحالة الاولى
حيوانات برية دُجنت بمهارة و أُطرت بقضبان من حديد …. ذلك ما تكشفه أحزمة الضوء المنهمرة كالجداول على تلك اللوحات التي سُمرت على جدران المعرض أما التماثيل فقد احتلت وسط القاعة وبقيت تتثائب بعد ان يئست من الانتظار فجلست بين العابرين بلا أمل….. أحدها كان يحمل هما ثقيلا … و الاخر نُصب في زاوية يُعيد قراءة التاريخ السري للمدن المغلقة بوجه الغرباء و على ايقاع العاصفة كانت التماثيل تتمعن بالعابرين ….. وجوه تعبر احزمة الضوء و ضحكات من العتمة و همس متحضر لم يتخلص من بدائيته المتأصلة بعد , مهما تم صقله .
عنكبوت يقبع في الزاوية بلا شباك يخشى الحركة كي لا يسقط فتدوسه اقدام العابرين بين عوالم اللوحات تلك . أما حين يذهب الجميع و تسود العتمة و لا يبقى سوى ظلام المكان يمزقه الضوء الخافت المتسلل الى الداخل فان ذلك العنكوت يزحف عابرا البحيرات التي رُسمت … يدخل الاجساد المثقوبة بفعل الحروب ….. يعبر صحارى بعض اللوحات و يدوس بأنامله المرتعشة فوق صورة الجنرال المبتسم في مدخل المعرض .
حركة الغرباء وما احتلني من افكار دفعني للمكوث في زاوية ذلك المعرض لزمن طويل .. ربما لشتاء كامل . عيناي تتنقلان بين اللوحات المعلقة بشغف كحركة عصفور فتي .
اطلقتُ شهقة واضحة لا ادري من اي عمق من روحي انطلقت فاستدار الي البعض الا أنهم حين ادركوا عدم معرفتهم بي , عادوا الى عوالمهم غير مكترثين اما انا فبقيت واقفة امام تلك اللوحة المعلقة في زاوية مهملة من المعرض و التي كانت سببا لشهقتي وانا أحدق بتلك القطة الصغيرة التي قُطعت اطرافها الخلفية و ما يزال دمها يقطر مكونا بركة صغيرة اسفل الجدار . كنت على يقين أنني قد رايت قطرات الدم تلك على ارض المعرض حتى أنها لطخت ثوبي الانيق الذي كنت حريصة أن أبدو فيه لافتة للنظر كما أوصتني امي . الا أن تراجعي دفع بي الى عمق الظلمة و بقيت وحيدة أُحدق في اللوحة في الوقت الذي كان الاخرون يعبرون من امامي دون ان ينتبهوا لوجودي و يمضوا تباعا باتجاه باب المعرض … و حين هدأت الحركة و غادر الجميع , رايت القطة المدماة تزحف خارج اللوحة جارة بقايا طرفيها الخلفيتين المقطوعتين تاركة على ارضية القاعة خيطا من الدم . تبعته ماخوذة من دون ارادتي وما أن وصلت الى الباب حتى حملت القطة .
قال الحارس : كدت ان اغلق الباب فقد ذهب الجميع منذ ساعة و لم يبق احد . لم ارد عليه و أسرعت بالمرور من أمامه خشية أن يكتشف أنني سرقت قطة اللوحة
الحالة الثانية
( 1)
البيوت أعشاش مهما اتسعت او ضاقت الا أن بعض تلك الاعشاش تزحف عليها المدن وتحيط بها البنايات الشاهقة . هذا ما كنت اراه كلما عبرت الشارع االمزدحم بالمحلات و المضاءة بالاعلانات قبل أن أنعطف عبر ممر ضيق مظلم على بعد عشرين مترا لأجد نفسي في مواجهة بيتنا ذي الحديقة الخربة والتي لم يبق منها غير بضع نخلات شاخت وما عاد لاحد القدرة على تسلقها . لكن رغم قامتها الفارعة تلك , كنت اشعر بضآلتها وسط البنايات الشاهقة فينعكس ذلك في روحي عابثا بقيم وتعاليم استقرت بداخلي حين كان الزمن اكثر انصافا كما تردد امي دائما ( آه لو كانت تلك النخلات وسط بساتين فتية لكانت تيجانا لها ) أما الآن فقد ذبلت و تكدس التمر في قلبها…مواجهة المواسم بعبثية لا حدود لها . و الى جانب تلك النخلات كانت هنالك شجرة توت انحنت بفعل الشيخوخة و جذع شجرة رمان ميت لم يقتلعه أحد . بقي مصلوبا ليشهد النهايات الحتمية لذلك المنظر الذي حفرت الجرذان في زواياه أنفاقا . لا أحد يعلم الى أين تؤدي .
نسيت أن أذكر … هنالك تلك الشجرة الغريبة التي لم تمت و لم تكبر و لم تثمر طوال السنوات . هي الاقرب الى باب دارنا الذي دفعته بقدمي لأندس في دهليزه المظلم . وقد اعتدت على تسميته بهذا الاسم منذ أن فقد مصابيحه و لم يصلحها احد فما حاجتنا الى الضوء مادامت أرواحنا تئن تحت ثقل العتمة . هكذا اعتادت أُمي أن تقول و هي مبتسمة كدمية سحقتها عجلات آلاف السيارات في طريق خارجي .
قبل ان أتجاوز الدهليز الذي أسهبت بالحديث عنه , سمعت صوت رجل يتحدث الى أُمي التي لم تفارق كرسيها ذا العجلات الا في ساعات الليل المتاخرة … و في العديد من تلك الليالي لم تكن تغادره حيث تبقى مستيقظة لأيام متعاقبة . فما الفرق ما دامت طوال حياتها تدور في المكان نفسه يضئ وحدتهاالمصباح الخافت ليل نهار .
كان صوت الشاب خجولا كما يبدو , رقيقا و هو يؤكد طلب حاجته لاستئجار الغرفة الصغيرة التي احتجزها ألسائق لسنوات و هي جزء من ميراث الزمن الذي كان فيه ذكر اسم ابي كافيا ليجعل كل من في المدرسة التي درست فيها يقف جانبا حين أمر . الا ان الطرق ضاقت ما ان غادر ابي الحياة و ما عاد اسمه يذكر الا مرات متباعدة في بعض االملفات التي سرعان ما توضع على رفوف نادرا ما تفتح . و لأن تلك الغرفة كانت مهملة في ذاكرتي فلم يرد ذكرها في وصفي الدقيق و الممل للحديقة . و ما هي في حقيقة الامر الا غرفة صغيرة رطبة تهشمت نافذتها الوحيدة … تتمدد على سطحها مئات من القطط تراقب الجرذان التي تحفر انفاقا لتحتل العالم السفلي من المدنية .
كان الشاب يتوسل أُمي المنحدرة من سلالة القياصرة الروس كما تؤكد الورقة المحتفظة بها بعد ان هاجرت مع أهلها من تلك الربوع التي طالما تغنت بها من دون ان تذكر لنا اسباب ذلك النزوح … فدونتُ في مخيلتي أسبابا لقصة حب لم تعلق هي عليها كي لا أطالبها بمزيد من الايضاح لما تريد ابقاءه سرا .
اوشك الشاب على الانسحاب بعد ان فشل باقناع امي باستئجار غرفة السائق. لأنها ترفض الاعتراف بالوضع المزري الذي نحياه الا ان دخولي كان كافيا ليوقف رفض امي ويذكرها بالحقيقة… و هي في كل الاحوال تخشى ثورات غضبي بعد أن تجاوزت الثامنة و الاربعين منذ مدة و تعرف أن حياتي تشبه حياة القطط التي أُحبها و المنتشرة في أرجاء البيت و حوله . تراجعت أُمي بكرسيها معربة عن غضبها ما ان منحت الشاب موافقتي في استئجار غرفة السائق الذي كان يعمل لخدمتي ويجتهد لحمايتي في طفولتي
( 2)
مر الليل و لم نتبادل الحديث .
كانت امي تصلح ذاكرتها بصمت من دون جدوى و انا أُعالج جراح القطة المسكينة و أُعيد قراءة فنجان الليلة الماضية .
(3)
اليوم التالي
كان النهار صيفا
والليل صيفا …..
الا ان غرفتي أمطرت..
وأمي بقيت في كهفها
( 4)
بعد سبعة اشهر مرت
وأنا أراقب الشاب بحذر شديد لم أُبادله الحديث بفعل الكبرياء التي ارضعتني اياها حفيدة القياصرة و بفعل الطفولة التي عشتها رغم خواء ايامي الذي احيا فيه الان كنت في بعض الاحيان أُشاهد فتاة جميلة تغادر الغرفة التي استاجرها الشاب و لا تعود الا في ساعات الليل المتاخرة …بعدها أغلق جفني مجبرة لأغفو . تلك كانت لعبتي التي اقوم بها كل يوم هذا ما جعل الاشهر السبعة طويلة ولكي اضع حدا لقلقي قبل أن ينال مني. تسللت الى الحديقة الميتة ذات ليل و رفعت راسي الى النافذة الصغيرة الوحيدة كقطة مريضة هرمة و في راسي عشرات الصور التي يخيل لي أنني سأراها الا حقيقة واحدة. و هي أن الشاب لم يكن الا تلك الفتاة … هربت مسرعة . كان ذلك هو الذنب الوحيد الذي ارتكبته . فتحت الفتاة الباب و ابتلعتها المدينة . اما أنا زحفت الى غرفتي لأنام في القبر و عند رأسي حقيبتي و فنجان القهوة المتيبس و قطتي التي أخذتها من اللوحة
(5 )
أمي تودعني بنظراتها من النافذة ذات مساء حزين وانا اغادر المكان زاحفة كالعادة , حتى ابتلعني الممر الضيق المظلم دون ان تكون بي رغبة لقصد مكان معين الا أنني وجدت نفسي عند باب المعرض و قد شاخ الحارس الواقف هناك وغدا هرما … مهملا . في الوقت الذي ما يزال البعض يغادر المكان بما يوحي أن ساعات العمل قد انتهت و لم تبق الا دقائق معدودات. اندفعت الى قاعة المعرض مسرعة وتوجهت الى اللوحة المسمرة في المكان المظلم فوجدتها فارغة عندها تسلقتُ اطارها و جلستُ في زاويتها بهدوء مميت أتطلعُ الى الفراغ الذي لا حدود له . اما القطة فقد وقفت تحت حزمة ضوء ذهبية تنظر الي بصمت . عندها و بهدوء تام أغلق حارس المعرض الباب الى الابد .

منشور في جريدة الزمان عام 2002


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى