ادب وتراث

خالد القشطيني في أمسية ثقافية في المركز الثقافي العراقي بلندن

استضاف المركز الثقافي العراقي بلندن الكاتب خالد القشطيني في أمسية ثقافية تحدّث فيها عن تجربته الصحفية الطويلة وما تخللها من ذكريات حلوة ومرّة في آنٍ معاً، وقد أدار الندوة كاتب هذه السطور وفعّل النقاش بين الكاتب والحاضرين. تأتي هذه الأمسية ضمن سلسلة النشاطات الثقافية المتعددة التي ينظّمها المركز الثقافي بلندن في الثلث الأخير من عام 2012. وقد أدرجَ الدكتور المثابر عبد الرحمن ذياب، مدير المركز، خمس عشرة فعّالية ثقافية وفنية في هذا الموسم نذكر منها أمسية للكاتبة أميلي بورتر، وقراءة شعرية للشاعر صلاح نيازي، وأمسية لعازف العود أحمد مختار، وندوة للفنانة هند كامل وغيرها من الندوات الثقافية والعلمية والفكرية المتخصصة.

نوّه القشطيني في مستهل محاضرته إلى ضرورة الحديث باللغة الإنكليزية في محاضرات المركز الثقافي العراقي بلندن لأن مهمة المركز الأساسية هي نشر الثقافة العراقية في إنكلترا والتواصل مع الجمهور البريطاني بلغته الأم، ولكنه أشار في السياق ذاته إلى أن غالبية الجمهور الذي يرتاد المركز الثقافي العراقي هو من العراقيين والعرب إضافة إلى عدد محدود من البريطانيين، ويمكن أن تقلب المعادلة لأن هناك محاضراتٍ قيّمةَ يقدّمها كُتّاب وباحثون بريطانيون فلاغرابة أن يشهد المركزاً حضوراً بريطانياً متميزاً. قسّم القشطيني محاضرته المعنونة “تجربة صحفي عراقي” إلى ثلاث محطات رئيسية تبدأ بصحيفته المدرسية الفكاهية “صوت الأعظمية” التي ملأها بالمواد الساخرة، فالفكاهة والسخرية تسريان في دمه منذ الطفولة. أما المرحلة الثانية فتتمحور على اكتشافه لبرنارد شو الذي اتخذه مُعلماً ومرجعية رئيسية له، وتبنى أسلوبه الساخر في الكتابة، خصوصاً وأنّ القشطيني نفسه قد حظي بلقب “برنارد شو العرب” الذي أسغبه عليه هشام الحافظ لأنه يمتلك أسلوباً فكاهياً ساخراً يمزج الجد بالهزل ثم لُقِّب لاحقاً بالضاحك الباكي. اعترض القشطيني على تسميته بالصحفي، ويرى بأنه كاتب وأديب يكتب في شؤون الأدب والفن، كما يكتب في الشأن السياسي. ويعتقد أن الصحفي يتوفر على حافظة جيدة تتذكر الأسماء والوقائع والأحداث، أما بالنسبة إليه فهو ينسى أسماء الأصدقاء والمقرّبين إليه، وذات مرة نسي اسمه أمام محاسب الجريدة إلى أن جاء الشاعر فاضل السلطاني مصادفة فناداه باسمه الذي كان متلاشياً من ذاكرة القشطيني المضببة. يستغرب القشطيني أن مدرِّسي اللغة العربية الذين درَّسوه على مدى سنوات طويلة لم ينتبهوا إلى موهبته القصصية والسردية التي انتبه إليها بالمقابل المستر سبرنغ فيلد، المدرّس في المعهد البريطاني، وطلب منه أن ينمّي هذه الموهبة. أما المحطة الثالثة والأخيرة فتبدأ بملاحظة محمد مندور، شيخ النقاد العرب الذي قال في أثناء مراجعته لأحد أعداد مجلة “الآداب” قائلاً: “إن مقالة القشطيني يجب أن تكون مثالاً يحتذي به الكتّاب الآخرون”. وقد حفّز هذا الرأي الصحف والمجلات العراقية لاستكتابه والاحتفاء بمقالاته التي ينشرها. وحمل على العراقيين اهمالهم للمواهب العراقية الحقيقية التي اشتهرت في الخارج مثل ناظم الغزالي وكاظم الساهر وغيرهما. يرى القشطيني أن العراقيين لا يحبون الفكاهة والسخرية بخلاف السعوديين الذين أحبوا أسلوب القشطيني وتعلقوا بكتاباته الفكاهية الساخرة، وشجعوه على المضي في هذا الأسلوب المثير. خصّ القشطيني الأستاذ عثمان العُمير، رئيس تحرير صحيفة “الشرق الأوسط” آنذاك بلمسة وفاء وعرفان بالجميل الذي أسداه له العُمير على مدى سنوات طويلة، ودافع عنه غير مرة، ولولاه لما استمر القشطيني في عموده الذي دأب على كتابته منذ عشرين عاماً أو يزيد.
تحدّث القشطيني بمرارة عن سلسلة المحظورات في العالم العربي، فالكاتب لا يستطيع أن يتعرض لرئيس الدولة وكبار المسؤولين، كما أنه لا يستطيع المساس بالدين، ولا أن يشير إلى الجنس والأعضاء الجنسية بالطريقة المكشوفة التي يحبّذها القشطيني نفسه. توقف القشطيني عند بعض الناس الذين يرونه متقلباً، لكنه يعتقد أن العالم هو الذي يتقلّب ويتغيّر. وأكد القشطيني في ختام محاضرته بأن الشيء الوحيد الثابت في حياته هو تعاطفه الدائم مع الفقراء والمحرومين ومؤازرته المتواصلة لهم، أما بقية الاشياء فهي ثانوية ومتقلبة وعابرة.
نبيل الحيدري: أنت معروف باهتماماتك المتنوعة، فهل من الصعب على الكاتب أن يكون موسوعياً في عطائه وفكره؟
-لقد وصفوني في كتاب “حكايات من بغداد القديمة: أنا وجدتي” بأنني رجل من رجال عصر النهضة، وفي ذاك العصر تحديداً لم يكن هناك فصل بين العلم والفن، فدافنشي مثلاً كان رسّاماً ونحاتاً ومعمارياً، لكنه في الوقت نفسه كان عالماً وله أبحاث علمية كثيرة. مايكل أنجلو كان رسّاما ونحّاتاً وشاعراً ومهندساً معمارياً. أنا أعتبر نفسي من ذلك الجيل ولديّ اهتمامات كثيرة. والحقيقة أنا أحزن على نفسي لأن العمر قصير، ولا أستطيع أن أطلِّع على كل الأشياء التي يجب على الإنسان أن يطلِّع عليها، غير أنّ هذا التنوّع له جانبه السلبي أيضاً لأنني تشتتتُ ولم أركِّز على ميدان محدّد. فحينما كنت أذهب إلى الإذاعة البريطانية كانوا يقولون: إن القشطيني فنان فماذا يفعل بيننا نحن الكُتّاب؟ وحينما أذهب إلى الفنانين كانوا يقولون: ما الذي يفعله القشطيني بيننا وهو الذي يكتب في السياسة، وهكذا ظللت أترجّح بينهما من دون أن يعترفوا بي وهذه هي مصيبتي الحقيقية. “اعترضت السيدة أنسام الجرّاح على كلمة تشتت وأسمت هذا التنوّع ثراءً”.
أبو فراس الحمداني: هل لك أن تقارن لنا بين مساحة الحرية المُتاحة الآن وبين الحقب السابقة وطبيعة الرقيب سواء أكان سياسياً أم اجتماعياً أم دينياً؟
– أنا شخصياً ليس لدي مشكلة مع الرقيب السياسي لأنه يرسم لي خطوطاً معينة أعرفها، وأمشي ضمنها، ولا أتجاوزها، أي من الممكن أن أتفاهم مع الرقيب السياسي من خلال تغيير هذه الكلمة أو تعديل هذا الرأي، لكن الرقيب الحقيقي هو جمهور المثقفين أنفسهم، هذا الجمهور الذي يدعو إلى حرية الفكر، ويقوم بقتل الفكر بنفسه، وقد عانيت باستمرار من جمهور المثقفين، وهذا الأمر لم ينبثق من فراغ، وإنما ناجم عن سوابق تاريخية. ففي الأربعينات، على سبيل المثال، نشرَ الرصافي كتاب “رسائل التعليقات”، وكان عمّي ناجي القشطيني قد أجاز هذا الكتاب وتمّ طبعة وتوزيعه، لكن حينما جاء دور الجمهور هبّ جلال الحنفي وبقية المعممين آنذاك وقلبوا الدنيا رأساً على عقب فسحبوا الكتاب من المكتبات. هنا لم يكن الرقيب هو السبب، وإنما الجمهور هو الذي كان يكبح، وحتى أنتم أيها الجالسون هنا أقولها وبكل صراحة أن أية فكرة لا تعجبكم تلعنون أبو الشخص الذي قالها.
سمير طبلة: هل كتبتَ في الصحافة الإنكليزية بأسلوبكَ الساخر المعروف؟ وهل ندمتَ على شيء كتبته؟
-أنا أكتب في الصحافة الإنكليزية بين الحين والآخر، ومؤخراً نشرت لي مجلة اسمها ” The Middle East ” مقالاً فكاهياً وسوف تستمر في نشر سلسلة من مقالاتي الساخرة. تتمحور هذه المقالة حول نكات الرئيس الطالباني وقلت فيها أنه رئيس الجمهورية الوحيد في البلاد العربية الذي يتوفر على روح النكتة. وقد ذكرتُ ذلك في كتابي المعنون “الظُرف في بلد عبوس” الذي صدر مؤخراً عن دار “المدى”. ويتناول هذا الكتاب الظرفاء الذين ظهروا في العراق منذ عهد الدولة العباسية، مروراً بالعهد الملكي، وانتهاءً بالعهد الراهن الذي هيمنت فيه نكات الرئيس الطالباني. أما بصدد الشق الثاني من السؤال، فالجواب نعم، ندمت كثيراً لأنني كلما أغيّر رأياً من آرائي أندم على أشياء فعلتها. بالمناسبة فيما يتعلق بالنكتة أنا لاحظت أن الشعوب كلما يقتلها الجوع تلجأ إلى الفكاهة وأذكر في هذا الصدد أن أحد السودانيين قد جاء إلى القاهرة وروى نكتة فقيل له: أين سمعتها؟ فأجأب: في الخرطوم. فردّ عليه أحدهم: لازم جعتوا!
صادق فرج: هل يفرض عليك عملكَ في صحيفة “الشرق الأوسط” أن تهادنهم وأن لا تتحرّش بهم؟
-مثلما أشرت سابقاً أن هناك خطوطاً حمراء ينبغي على الكاتب أن يلاحظها وأن يتقيّد بها، وبالمناسبة هذه الخطوط الحمراء موجودة حتى في إنكلترا والصحفيون يلتزمون بها. وفيما يتعلق بجريدة “الشرق الأوسط” التي أكتب فيها منذ عشرين عاماً لم يطلبوا مني في يوم من الأيام أن أكتب عن موضوع معين أو قضية محددة. ولأنني لا أريد أن أكذِّب أقول في الأشهر الأولى التي عملتُ فيها في “الشرق الأوسط” وحينما حلّ العيد الوطني السعودي طلب مني الأستاذ عثمان العمير، رئيس التحرير، وأنا مدين له بالكثير لأنه صاحب أفضال عديدة عليّ كما أشرت في المحاضرة، طلب مني أن أكتب مقالاً عن هذا اليوم الوطني السعودي فكتبته لأنني مأمور، فقال لي لقد أديت واجبك، وربما أراد أن يثبت للمسؤولين بأنني لست إنساناً شيوعياً جاء لكي يهدِّم كيانهم. وبعدها لم أتلقَ أي طلب أو تكليف، لكن هناك مقالات لي تُرفَض لأسباب مختلفة.
فيحاء السامرائي: لديك رأي غريب بالمرأة العراقية فمرّة كتبتَ في دفتر إحدى صديقاتي بأنك تكره المرأة العراقية، لماذا؟
-هل قلت ذلك حقاً؟ إذا كانت هذه الكلمات لي فأنا أتراجع عنها. والمثل البغدادي يقول: “مَنْ حبّك لاشاك”.
سامية الأطرش: هل كان أول حُب لك من امرأة عراقية؟
-كل عراقي يحب امرأة عراقية، لكن الفقر، من وجهة نظري، إثم وجريمة. أنا أكره الفقر، لذلك استشهد دائماً بقول الإمام علي “لو كان الفقر رجلاً لقتلته”، لأن الفقر يعقِّد قصص الحُب والغرام. حينما كنت طالباً في كلية الحقوق وفي معهد الفنون الجميلة أيضاً كان هناك عدد من الفتيات اللواتي استهويتهنَّ، لكنهنّ لم يأتين لي وإنما ذهبن إلى أناس أثرياء وتزوجنّ. تضع المرأة العربية الراحة والمال في مقدمة اهتماماتها لأنها تخشى من الفقر، بينما المرأة الأوروبية لا تخشى الفقر، ولا تخاف من الجوع، لذلك فهي حرّة في أن تقع في حب أفقر الناس وأكثرهم إفلاساً. ونحن الرجال بالمقابل حينما يأتينا أحد الشباب لكي يخطب بنتنا نسأل عن دخله وأملاكه قبل أن نعطي رأينا الحاسم بالموضوع.
عدنان حسين أحمد: هل لي أن أعرِّج على مجموعتك القصصية “بغداد على التيمز: ليالٍ عربية” وأستفهم منك شخصياً إن كنتَ قد أفدتَ من سيرتك الذاتية أو وظّفت جانباً منها في قصص هذه المجموعة على وجه التحديد أو في القصص الأخرى التي نشرتها في مجموعتين قصصيتين أخريين، أم أن هذه القصص ناجمة عن الخيال الصرف لا غير؟
-أنطلق في كتابة القصص دائماً من حادثة معينة إما إن أكون قد مررتُ بها أو عاشها أحد الزملاء. آخذ هذه الحادثة، خصوصاً إذا كانت طريفة ولافتة للانتباه، وأطوِّرها مضيفاً إليها بعض الرتوش لكي تصبح قصة قصيرة يستمتع بها القارئ. قسم من قصص المجموعة التي أشرت إليها حصلت لي وأنا طوّرتها مثل قصة “فيروز” التي لها أساس واقعي، إذ كانت هناك امرأة تتصل بي هاتفياً في منتصف الليل، ثم طوّرت حكاية الإتصال وصنعت منها قصة قصيرة. وهناك قصص أخرى نابعة من الخيال كلياً. “تدخلّت فتاة سورية جميلة وقالت له أعطني رقم تلفونك أستاذ خالد حتى أتصل بك في منتصف الليل”.
عدنان حسين أحمد: أود أن أسألك عن رواية “على ضفاف بابل” التي تتمحور حول طبيب يهودي عراقي يضطر تحت التهديد لأن يفحص فتاة شابة يشكّون أهلها في أنها حامل، ويطلبون منه إسقاط الجنين إن كانت حاملاً بالفعل إلى أن يفضي به هذا الأمر إلى الجنون. هل لهذه القصة جذر واقعي أم أنها نابعة من الخيال أيضاً؟
-أنا سمعت أن الدكتور اليهودي سليم كباي “على ما أظن، لم أعد أتذكر الاسم جيداً”، وهو طبيب عائلة جاءه في أحد الأيام شخص وقال له: “أنا أشتبه في أنّ أختي حامل، وأريد منك أن تفحصها، وإذا اكتشفت أنها حامل فعليك أن تشق بطنها وترينا الجنين. وإذا لم تكن حاملاً فسأعطيك أجور المعاينة، ولكن إذا اكتشفت لاحقاً أنها حامل، أي أنك كذّبت علينا، فسوف أقتلك”! لقد فعل الدكتور سليم كباي ما طلب منه، لكنه أصيب بالجنون إثر هذه الحادثة. وفي حينه التقيت بيهودية عراقية هاجرت إلى إسرائيل لاحقاً وسألتها عن الطبيب سليم كباي فقالت: “نحن عائلة كبيرة جداً، سمعنا بأن هناك طبيباً فقد عقله، ولكنني لا أعرف التفاصيل”. لقد انطلقتُ في كتابة رواية “على ضفاف بابل” من هذه القصة التي سمعتها من الآخرين. بالمناسبة يقول بعض الناس “أنني أسبّ الشيوعيين دائماً”، لكن غالبية شخصيات رواياتي شيوعية ومثقفة وفعّالة. فهذا الدكتور كان شيوعياً في روايتي وغرفته ملأى بالكتب الماركسية، كما كان موسيقياً ويعزف على العود. صوّرت في الرواية ذاتها الجريمة الكبيرة التي ارتكبناها نحن العراقيين والعرب أيضاً حينما اضطهدنا اليهود وكنا السبب في هجرتهم إلى إسرائيل التي اغتنت بهم، وخاصة اليهود العراقيين الذين كان بينهم أناس عباقرة يحنّون إلى بلدهم، لكن قلوبهم ملأى بالهموم.
عبدالرزاق الصافي: ألا تعتقد أن الحكّام العرب، وليس الشعوب العربية، هم السبب الرئيسي في تهجير اليهود من البلدان العربية، وهم الذين كانوا ينفذون المخططات الصهيونية؟
-كلامك صحيح مئة بالمئة، وأنا أتفق معك، وأحكي هذا الكلام عن تجربة شخصية. كنت موظفاً في حينه في دائرة النفوس في بغداد، وكنت مسؤولاً تحديداً عن منطقة اليهود من الرصافة الثانية إلى الرصافة الرابعة. وحينما صدر هذه القانون كان عدد الناس الذين يُسقطون جنسياتهم قليلاً جداً ولم يتجاوز الخمسة آلاف مثلما ذكرت، ولكن حينما بدأت التفجيرات في المناطق اليهودية ودور عبادتهم أدخلوا في رؤوسهم بأن المسلمين سوف يذبحون اليهود، عندها تعقدت الأمور وإذا أرى أمام باب دائرتي جمهوراً غفيراً من اليهود الذين جاءوا للمطالبة بإسقاط جنسياتهم.
هاشم غانم: هل هناك فرص ضائعة في مجال عملك الصحفي أو الحياتي بشكل عام؟
-حينما تخرجت من الثانوية كان همّي الوحيد هو دراسة الاقتصاد لأنني أعتبره أساساً في محاربة الفقر، لكن لسوء الحظ لم تكن هناك كلية اقتصاد في تلك الحقبة، فاضطررت لدراسة القانون، وبقيت نادماً على هذا التخصص. وقبل سفري إلى لندن ذهبت إلى الكلية لكي آخذ شهادة التخرج قال لي الموظف أن العميد منير القاضي يريد أن يتحدث معك. وبالفعل هنأني العميد على التخرّج من كلية القانون، ولكنني كنت صريحاً مع العميد فقلت له: “أنا ضيّعت أربع سنين من حياتي”! وحينما هممت بالمغادرة أمسك بي وقال: “ابني، صحيح نحن لا نعطي الناس وظائف، ولكن نغذي أدمغتهم بالعلم والمعرفة القانونية لكي يفكروا ويستعملوا هذه الأدمغة حينما تصادفهم بعض المشاكل أو الأمور الصعبة”. ثم اكتشفت لاحقاً صحة كلامه من خلال خلفيتي القانونية التي تعينني في حال حصول أية مشكلة في حياتي الشخصية.
أحد الحاضرين: هل أثرّ انتماؤك السياسي وآيديولوجيتك على كتاباتك، وهل التقيت بالشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري؟
-نعم، طبعاً، أثرّ انتمائي السياسي على كتاباتي. صحيح أن الاتحاد السوفييتي انهار، مثلما انهارت الشيوعية، لكن الحقيقة أن الشيوعية حلم كبير، وتآخي البشرية مطلوب، وكنا نحلم بألا يكون هناك فقير أو مريض أو محتاج على وجه الأرض. إن العدالة الاجتماعية هي حلم كبير تطلعت له البشرية منذ أيام الأنبياء، غير أن الشيوعية فشلت في تطبيقه على الرغم من اتباع مفهوم “خطوتين للأمام وخطوة للوراء”، ولكنني واثق أن الفكر الاشتراكي سوف ينتصر في النهاية. وفيما يتعلق بسؤالك عن الجواهري فقد التقيت به عدة مرات، ومن الأشياء التي أعتز بها هي حضوري لأمسيته التي قرأ فيها قصيدة “أتعلم أنت أم لا تعلم”، ثم التقيت به بلندن في مناسبات مختلفة.
معد فياض: أنت تكتب عموداً في “الشرق الأوسط”، كما تكتب في أماكن أخرى أيضاً، وهذا يعني أن تبذل جهداً كبيراً. هل تعتمد على نفسك فقط أم أنّ لك مصادر أخرى؟ وهل شعرت بأنك نادم لأنك اتجهت إلى الصحافة، ولو كان بيدك تغيير مسار حياتك فهل ستغيّره؟
-نعم، كانت هوايتي الرئيسية هي المسرح، وكنت أتمنى لو أنني أنجح ككاتب مسرحي تُمثَّل مسرحياتي. فانا كتبت بضعة مسرحيات ونشرتها، لكنها لم تُمثَّل وقد شعرت بالخيبة فعلاً. وفيما يتعلق بكتابة الأعمدة فإن الكثيرين يعتقدون أنني أبحث كثيراً وأنبِّش هنا وهناك من أجل الحصول على المعلومة أو المادة، ولكنني، ماشاء الله، دعني أقولها هكذا “لا أدري من أين يأتي دماغي بهذه المسائل”؟ وفي روايتي “منْ جدّ لم يجد” قدّمت فيها وصفاً دقيقاً لجبال زاكروس حيث كان بطل الرواية يجتاز هذه الجبال التي وصفتها بدقة فقال لي أحدهم: “هل قرأت مصادر جغرافية في هذا الصدد”؟ فاندهش حينما أخبرته أن هذا التوصيف هو من خيالي المحض. أما عن عملي الصحفي فإنه لم يستهلكني.
سيدة سورية: أستاذ إذا رجعت عمرك عشرين سنة، ما الشيء الذي تحب أن تعمله الآن لأنك لم تستطع أن تفعله في ذلك الوقت؟
-أتزوج امرأة عراقية، لأنني حقيقة أعيش مع امرأة إنكليزية لا تفهم هذه المحاضرة، ولا تعرف شيئاً عن الكتب التي ألفتها أو المقالات التي أكتبها يومياً، هي في عالم وأنا في عالم آخر.
صادق طعمة: لم نقرأ شيئاً عن تجربتك الفنية في معهد الفنون الجميلة في العراق أو حتى هنا في لندن مع أنك درست الرسم، ودرّست في معهد الفنون الجميلة؟
-كنت أعرف منذ البداية أن موهبتي في الرسم ليست كبيرة. وفيما يخص الفنانين فأنا عاشرتهم غالبيتهم، وصاحبت قمم الفن العراقي التشكيلي أمثال فائق حسن وجواد سليم وبقية روّاد الحركة الفنية وبعضهم كانوا أساتذتي، لكنني أكتب عنهم بين الحين والآخر.

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى