مقالات

سلاماً غونتر غراس

معن البياري

لم يأْتِ الروائي الألماني الكبير، غونتر غراس (84 عاماً)، بغيرِ البديهي، في قصيدتِه “ما يجب أَنْ يُقال”، وهو أَنَّ إِسرائيل تمتلك قدراتٍ نوويةً تتزايد، وينبغي التفتيش عليها، كما التفتيش على منشآت إِيران الذرية. جهر الرجل بهذا الأَمر المعلوم، مؤشراً إِلى صمتِه الذي طال بشأن إسرائيل، ويتبدّى أَنّه يؤرقه، وأَراد أَنْ يُنهيه وهو “طاعنٌ في العمر وفي آخر قطراتِ الحبر”، كما وصفَ نفسَه في القصيدة التي نشرتها ثلاث صحف، أَلمانية وإِيطالية وإِسبانية، والتي ذكَّرتنا بأَنَّ صاحبها (نوبل للآداب 1999)، روائيٌّ يكتبُ الشعرَ أَحياناً. وفي الدويِّ الواسعِ الذي أَحدثته في أَلمانيا وأوروبا وأَميركا، ناهيك عن الصخب الرديء في إِسرائيل، تذكِّرُنا القصيدةُ بالتواطؤ القبيح في العالم المتمدِّن، بشأن إِسرائيل، واعتبار موضوعِها النووي، وكذا أَرشيف جرائمها، محرَّماً ليس الاقترابُ منه مباحاً.
أَراد غونتر غراس، الموصوفُ بأنه ضمير أَلمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، أَنْ يخدشَ هذا التواطؤ، وأَنْ يتحرَّرَ من صمتِه، فنطقَ بما رأَى أَنَّه يجبُ الجهر به، في قصيدةٍ شديدةِ العادية، ضمَّنها تأكيدَ تضامنِه الدائم مع إِسرائيل، والتي صرَّح أَثناء الهستيريا الكلامية التي شاعت ضدَّه، أنه كان دائماً مؤيداً لها، وأنَّ الأجدى كان أَنْ يتحدَّثَ في القصيدة عن الحكومةِ اليمينية في إِسرائيل، لا عن إِسرائيل نفسها، في محاولةٍ منه لتخفيفِ وقع القصيدة، مع تأكيدِه موقفه العتيق بشأنِ عدم شرعية المستوطنات في الأراضي الفلسطينية، ودعا إِلى إِخلائها.
نتذكَّر زيارةَ الكاتب المرموق لفلسطين مع نجومٍ من أَلمع أُدباء العالم، بينهم النيجيري وول سوينكا والإسباني خوان غويتسولو والبرتغالي جوزيه ساماراغو، ولقائهم، برفقة محمود درويش، الرئيس ياسر عرفات تضامناً معه أَثناء حصاره ومع الشعب الفلسطيني. ونتذكَّر أَنَّه شابَه جورج بوش الابن مع أُسامة بن لادن في “أَغراضِهما الشريرة” إِبّان غزو العراق.
ونتذكَّر زيارتَه صنعاءَ وحديثَه الطيِّب فيها عن الثقافة العربية. ولقائلٍ أَنْ يرى في هذه المواقفِ مسوغاتٍ لاحتفائنا، نحن العرب، بقصيدةِ غونتر غراس النثريّةِ غيرِ القويةِ جمالياً، وبصاحبِها بداهةً، لكن المسأَلةَ ليست هنا أَبداً، إِنها في الارتجاجِ الذي أَراد أَنْ يُحدِثَه هذا الكاتبُ في الوعي الأوروبي المثقلِ بالماضي النازي، وهو الذي تضعه أَلمانيّتُه في موضعٍ خاص، سيما وأَنه يطلبُ من مواطنيه أَنْ لا يبقوا أَسرى ذلك الأَرشيف في النظرِ إِلى إِسرائيل النووية، وفي مسألة أَنْ تُزوِّدَها بلادُهم بغواصةً ذاتِ قدراتٍ نووية.
ومن الظرافةِ السمجةِ أَنْ تكون “السذاجة السياسية” واحدةً من عدّةِ تهمٍ سيقت ضد غراس بعد قصيدتِه، وكأَنَّ الحصافةَ السياسيةَ توجِبُ عليه التسليمَ بأَنْ تبقى إِسرائيل فوق البديهيات، وهي التي يُهدِّدُها رئيس إِيران بالمحو عن الخريطة، من دون إِنعامِ النظر في الحقيقة الأَوضح، وهي أَنَّ إِسرائيل قامت كياناً في حربٍ أَرادت محو شعب فلسطين بطردِه من وطنِه وسرقةِ أَرضِه والاستيطان فيها. وثمَّة الحقيقة الأخرى، وهي أَنَّ ما جاءَ نصاً مسترسلا كيفما اتفق في قصيدةٍ، أَشهرَه مردخاي فعنونو بالوثائق والصور في صحيفةٍ بريطانية، قبل ستةٍ وعشرين عاماً.
تشاطر بنيامين نتانياهو وغيرُه في غير مطرحٍ في العالم، في التأشير إِلى انتساب غونتر غراس إِلى منظمة شبابيةٍ نازية في السابعةِ عشرة من عمره. وتناسى هؤلاء أَنَّه من جاءَ على هذه المحطة القصيرة في سيرته، في كتابِه “تقشير البصل” قبل ست سنوات، غير هيّابٍ من ذلك، وهو الذي انشغلت روايتُه الأشهر “الطبل الصفيح” بتعريةِ الحقبةِ النازية وفظائعها. كما أَنه الأَديبُ الذي ظلت الأخلاقُ بوصلةَ مواقِفه السياسية. ولهذا السبب وغيرِه، يصير طبيعياً أَنْ يكون عنيفاً غضب إِسرائيل منه، عصابةً حاكمةً وصحافة ونخباً، وكأَنه أَصاب البديهيّة الأهم في شأنها، وهي أَنها كيانٌ غيرُ أَخلاقيٍّ أَساساً.. سلاماً وتقديراً غونتر غراس، إِذن.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى