ادب وتراث

يهود الجالغي البغدادي.. بماذا طالبهم الباشا قبل التسفير؟ وكيف تعلم الرجب وشعوبي اصول الصنعة؟

اشتهرت بغداد منذ تأسيسها على يد العباسيين بأنها دولة علم، ودين، وطرب، ففي عهد حكم الإمبراطورية العثمانية، انتشرت العديد من المقاهي والكابريهات في المدن الرئيسية، مثل: بغداد والموصل والبصرة وكركوك، واستمرت إلى ما بعد قيام الدولة العراقية في عشرينيات القرن الماضي مستقطبة الكثير من الموهوبين في صناعة الغناء والفن عامة. واعلنت اليونسكو مؤخراً أن المقام العراقي هو إرث ثقافي يختص به العراق وحده. وتشير الدراسات الاختصاصية إلى أن الموسيقيين اليهود، منذ القرن التاسع عشر وصولاً إلى منتصف القرن العشرين كانوا المسيطرين على الجالغيات. والجالغي كلمة تركية تعني الجوق أو التخت الذي يرافق قارئ المقام، ويتألف في الغالب من سنطور ورقّ وطبلة وجوزة وقانون، ورجال أربعة كل يمسك بآلة معينة يعزف عليها. ويعود سبب سيطرة اليهود على الجانب الموسيقي، بحسب ما صرح الباحث الموسيقي والمدير السابق لبيوت المقام العراقي يحيى إدريس، إلى أن “المسلمين في العراق ينظرون إلى الموسيقى من زاوية الدين ومحظوراته؛ ولذلك أحجموا عن تعلم هذا الفن ومنعوا أولادهم من الضرب بالآلات؛ في حين كانوا يحترمون المغنين وقراء المقام، لأن أغلبهم من مجوّدي القرآن”. لكن ذلك لم يمنعهم من استقدام العازفين اليهود في مناسباتهم الاجتماعية والوطنية والتمتع بموسيقاهم؛ وقد ذكر العلامة جلال الحنفي وهو يحصي الموسيقيين أن هناك 214 عازفاً لم يكن بينهم من العازفين غير اليهود؛ سوى اثنين للقانون وثلاثة ضابطي إيقاع.
ويضيف إدريس “بعد حملة التسفيرات القسرية التي شملت المواطنين العراقيين من اليهود بتشجيع بريطاني وضغط إسرائيلي وتواطئ حكومي؛ قيل لرئيس الوزراء العراقي نوري السعيد الباشا وكان واحداً من عشاق المقام العراقي وعارفا بتفرعاته وأسراره إن الحركة الموسيقية ستصاب بالشلل نتيجة الهجرة الجماعية للموسيقيين اليهود؛ فأصدر أوامره بسحب جوازي سفر عازف الجوزة وعازف السنطور اليهوديين ومنعهما من مغادرة العراق، إلا بعد أن يعلّما 2 من العازفين العراقيين أصول هذه الصنعة”!! ويتابع “فعلا تعلّم هاشم الرجب العزف على السنطور وشعوبي إبراهيم العزف على الجوزة باعتبار أن هاتين الآلتين من أساسيات عزف المقام العراقي”.
ولذلك يجد الكثير من المثقفين والأدباء أنه من عدم الإنصاف ألا يعترف بجهد الموسيقيين العراقيين اليهود في تأصيل هذا الفن، وفي إثرائه بالكثير من الألحان التي نطرب لها اليوم من دون أن نعرف من هم مبدعوها، لأنها غالبا ما تذاع أو تعرض تحت بند: أغنية من التراث أو أغنية فولكلورية. وكان اليهود العراقيون قد أخذوا في الهجرة من مناطق وجودهم في العراق بعد وقت وجيز من تأسيس إسرائيل، مدفوعين بأعمال عنف أخذوا يتعرضون لها في العراق.
وحسب مصادر يهودية أن عدد اليهود في العراق كان أكثر من 150 ألف عراقي قبيل تهجيرهم، واليوم ليس هناك أكثر من ستة أشخاص متخفين ولا يعلنون عن دينهم. وتعدّ سليمة مراد او سليمة باشا مطربة عراقية يهودية الاصل إحدى قمم الغناء العراقي منذ أواسط العقد الثاني من القرن المنصرم، حيث احتلت مكانة مرموقة في عالم الغناء العراقي. وهي اول امرأة تاخذ لقب باشا. سليمة مراد كغيرها من مطربات بغداد نشأت في بيئة بغدادية وتعرفت على الجوق الموسيقى وعلى الجالغي البغدادي، وعلى مشاهير المطربين والعازفين آنذاك وقد تعرفت بالشاعر عبد الكريم العلاف الذي كتب لها اجمل الاغاني منها (خدري الجاي خدري وكلبك صخر جلمود وعلى شواطىء دجلة مر) وغيرها كما كان يلحن لها صالح الكويتي وفي عام 1935 التقت بالفنانة ام كلثوم في مسرح الهلال عندما قدمت الى بغداد اول مرة وتاثرت باغنية (كلبك صخر جلمود) وحفظتها عن طريق الفنانة سليمة مراد وسجلتها على اسطوانة نادرة وقد استمع لها الاديب زكي مبارك في احدى الحفلات واطلق عليها لقب (ورقاء العراق) وكانت اول فنانة عراقية تحلق بالطائرة ميمنة شطر باريس بلد الفن والجمال. وفي سنة 1936 كانت من اوائل المطربات اللواتي دخلن الاذاعة فقدمت العديد من الحفلات الغنائية وكان لها منتدى ادبي في بيتها فيه كبار الشخصيات من الادباء والشعراء ورجال السياسة. وكانت سليمة مراد متدينة بالديانة اليهودية الا انها لم تغادر العراق أيام حملة تهجير اليهود إلى إسرائيل، عندما عمدت الحكومة الملكية العراقية إلى إسقاط الجنسية العراقية عن كل اليهود لإجبارهم على الرحيل إلى إسرائيل، وبقيت في العراق حيث استمرت في ممارسة الغناء حتى السنوات الأخيرة من عمرها، وقد حذت حذوها الفنانة سلطانة يوسف حيث كانت الأخيرة يهودية الاصل أيضا.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى