مقالات

في دولة الامام

نزار حيدر

كلما تمر ذكرى مولد الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام في الثالث عشر من شهر رجب الاصب من كل عام (الاثنين 4 حزيران 2012) اراني اندفع دفعا لقراءة ما يمكن ان يكون حلا لمشاكلنا المعاصرة في نهجه الانساني العظيم، الذي اعتبرته الامم المتحدة في تقريرها السنوي للتنمية عام 2001 بانه خارطة طريق للدول التي تريد ان تنهض على مختلف المستويات.

وتزداد الحاجة لنهج علي عليه السلام، عندما نرى كل هذا التخبط والتردي في عالمنا العربي تحديدا، والذي تضلله اليوم غمامة الطائفية والعنصرية والعنف والارهاب والقتل والتدمير الذاتي، يسيرها نظام القبيلة المتخلف والفاسد الحاكم في دول الخليج، وتحديدا في الجزيرة العربية وقطر، هذا النظام السياسي الذي وظف البترودولار وفتاوى التكفير والاعلام التضليلي للتاثير على عقول وقلوب الراي العام العربي الذي يثبت يوما بعد آخر بانه لم يتحرر بعد من ضغوط واغراءات هذه الاسر الفاسدة.
في المقابل، يلزم ان لا نغفل عن المحاولات الجادة التي يبذلها الشارع العربي من اجل التحرر من العبودية التي فرضها عليه النظام السياسي العربي الفاسد، من خلال زخم الحراك السياسي الشعبي الذي يسعى نظام القبيلة لمصادرته او تحويله الى ربيع احمر مصبوغ بلون الدم، كما يحدث اليوم في سوريا وقبلها في ليبيا والعراق.
لذلك، ساحاول ان استجيب لحاجة الشارع العربي وتطلعاته نحو المستقبل من خلال استنطاق نهج الامام امير المؤمنين عليه السلام، وفي ذكرى ولادته الميمونة، لقراءة ملح مهم من ملامح الدولة العادلة التي حدد معالمها الامام في اكثر من خطبة او قول او رسالة او كتاب.
فلحرية الراي والتعبير، في دولة الامام، حيز واسع جدا، ولذلك، ليس فيها سجين سياسي واحد ابدا، وليس فيها صوت مقموع، او صاحب قلم مطارد من قبل جلاوزة الحاكم، لان للمعارضة، في دولة الامام، حق في ان تبدي رايا وتعبر عن نفسها او تتجمع وتتظاهر او تعترض او حتى تتقاطع آراءها مع راي الحاكم، الذي يجب ان يتسلم سدة الحكم بارادة الناس وليس قهرا او غصبا.
لقد ظل الامام امير المؤمنين عليه السلام يعلم الناس كيف يشاركون في الحكم والسلطة، ليس من خلال العمل في مؤسساتها حصرا، وهو الراي الشائع عندنا اليوم، وانما من خلال المشورة وابداء النصح والراي السديد، حتى اذا خالف راي الحاكم، فللراي العام حق مؤكد في ابداء رايه، بغض النظر عما اذا اخذت به السلطة ام لا؟ وهذا مبدا يعد بحد ذاته وسيلة لتعليم الناس على المشاركة في الشان العام وعدم القاء حابل الامور على غاربها، ليطغى الحاكم ويتجبر ويستبد ويستاثر بكل شئ.
يقول عليه السلام في جواب رائع على من اثنى عليه ومدحه ويذكر سمعه وطاعته له:
وان من اسخف حالات الولاة عند صالح الناس، ان يظن بهم حب الفخر، ويوضع امرهم على الكبر، وقد كرهت ان يكون جال في ظنكم اني احب الاطراء، واستماع الثناء، ولست، بحمد الله، كذلك، ولو كنت احب ان يقال ذلك لتركته انحطاطا لله سبحانه عن تناول ما هو احق به من العظمة والكبرياء، وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء، فلا تثنوا علي بجميل ثناء، لاخراجي نفسي الى الله سبحانه واليكم من التقية في حقوق لم افرغ من ادائها، وفرائض لا بد من امضائها، فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند اهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي، ولا التماس اعظام لنفسي، فانه من استثقل الحق ان يقال له او العدل ان يعرض عليه، كان العمل بهما اثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق، او مشورة بعدل، فاني لست في نفسي بفوق ان اخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي، الا ان يكفي الله من نفسي ما هو املك به مني.
في هذا النص، يرفض الامام الاطراء والمديح والسكوت عن قول الحق وتقديم المشورة للحاكم، لان كل ذلك ينتج:
اولا ؛ الديكتاتور الذي لا يحب ان يسمع نقدا من اي كان، بل تراه يعشق المديح والثناء والانحناء امامه.
ثانيا؛ بطانة فاسدة ومتملقة ووصولية تحيط بالحاكم كالسياج الحديدي، لا تسمعه الا ما يريد، وتتحاشى قول ما لا يريد، همها ان يرضى عنها السلطان الذي يقطع لسانها بحفنة من البترودولارات الحرام.
ثالثا؛ فجوة بين الحاكم وبين الناس تتسع كل يوم حتى تنتهي الى القطيعة بينهما، ما ينتج الاضطرابات والفوضى السياسية التي تنتهي الى الفساد، ما لم تتمكن الرعية من استبدال الحاكم المستبد باقل الخسائر.
رابعا: نظرية عبادة الشخصية التي تؤله الحاكم ولا تقبل من احد نقدا او رايا او التاشير على خطأ.
لقد رفض الامام عليه السلام رفضا قاطعا فكرة عبادة الشخصية، وان الحاكم فوق ان يخطئ او انه ظل الله في الارض ومالك الخلق بالنيابة عن ربهم، او انه فوق البشر اختاره الله ليسوس عباده، فلقد قال عليه السلام، وقد لقيه عند مسيره الى الشام دهاقين الانبار، فترجلوا له واشتدوا بين يديه: ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا: خلق منا نعظم به امراءنا، فقال:
والله ما ينتفع بهذا امراؤكم، وانكم لتشقون على انفسكم في دنياكم، وتشقون، بفتح التاء والقاف، به في آخرتكم، وما اخسر المشقة وراءها العقاب، واربح الدعة معها الامان من النار.  
ان من اهم اسباب الفساد السياسي في بلداننا اليوم، هو ان الحاكم يقمع الصوت الحر ويقطع لسان الحق، همه ان يجمع الشعراء والمداحين في مجالسه ليسمعوه اشعار المديح والثناء على شئ لم ينجزه، من خلال اصطناع النجاحات الكاذبة وخلق التعظيم الفارغ الذي لا يستند الى اي واقع.
لم يشا الامام يوما ان يصادر الحقيقة ابدا، بل انه كان يسعى لاشراك الراي العام ليفكر في شؤون الناس ما استطاع الى ذلك سبيلا، ولذلك كان يخيرهم ليفكروا، فكان يثني على كل راي يسمعه من احدهم حتى اذا تعارض مع ما يراه الامام، ليحاسبهم بعد ذلك اذا ما اختاروا، لانه كان على يقين بان فرض الراي والموقف يعطي الناس حجة عليه، هو في غنى عنها، ولذلك فعندما كان يختار الناس موقفا كان يحاسبهم بشدة لان الخيار خيارهم وليس خياره، فيحاسبهم وهو محق.
وعندما دعا الامام الناس لقتال الفئة الباغية التي قادها الطاغية معاوية ضده، اجابه الى السير جل الناس، الا ان اصحاب عبدالله بن مسعود اتوه، فيهم عبيدة السلماني واصحابه، فقالوا له: انا نخرج معكم، ولا نترك عسكركم ونعسكر على حدة، حتى ننظر في امركم وامر اهل الشام، فمن رايناه اراد ما لا يحل له، او بدا لنا منه بغي كنا عليه.
فقال لهم الامام عليه السلام:
مرحبا واهلا، هذا هو الفقه في الدين، والعلم بالسنة، من لم يرض بهذا فهو خائن جبار.
فالامام لم يعاقب هذه الجماعة لانها رفضت رايه باللحاق به والانضمام الى جيشه، كما انه لم يخونهم او يتهمهم بتبني اجندات خارجية لانهم راوا رايا يخالف رايه، ابدا، بل انه عليه السلام، عظم موقفهم واحترم رايهم واثنى على ما قالوا، ليعلمهم كيف يختارون؟ واذا ما اختاروا بانفسهم، كيف يتحملون مسؤولية القرار؟ وهذا هو المهم عند الامام، الذي لم يبحث يوما عن امعات تطيع بلا وعي، وتتبع بلا مسؤولية، وترى ما يراه الحاكم بطاعة عمياء لا تربي رجالا ولا تحث على مسؤولية.
ولقد كتب الامام الى اهل الكوفة، عند مسيره من المدينة الى البصرة لقتال اهل الجمل {اما بعد، فاني خرجت من حيي هذا، اما ظالما، واما مظلوما، واما باغيا، واما مبغيا عليه، واني اذكره الله من بلغه كتابي هذا لما نفر لي، فان كنت محسنا اعانني، وان كنت مسيئا استعتبني، فالامام عليه السلام لا يحتكر الحقيقة ولا يصادر الراي الاخر، او حق التفكير، وانما يشرح الموقف بكل صدق ويدع الاختيار بيد الناس.
كما انه كتب الى طلحة والزبير، مع عمران بن الحصين الخزاعي {وقد زعمتما اني قتلت عثمان، فبيني وبينكما من تخلف عني وعنكما من اهل المدينة، ثم يلزم كل امرئ بقدر ما احتمل، فارجعا ايها الشيخان عن رايكما، فان الان اعظم امركما العار، ومن قبل ان يتجمع العار والنار}.
انه عليه السلام يبدي كامل احترامه للمتخلفين عن الفريقين من دون ان يكفرهم او يخرجهم من الملة، بعد ان اوجد لهم الاعذار المناسبة، من جانب، ومن جانب آخر، فانه عليه السلام يبدي كامل استعداده للاحتكام الى الراي العام، راي الاغلبية الصامتة، على حد التعبير السياسي الشائع اليوم، ليقضي بينه وبين خصمه، بلا تجبر او طغيان، وبذلك القى عليه السلام الحجة على خصمه قبل اي شئ آخر.
ولهذا السبب قال عليه السلام لعبد الله بن العباس، وقد اشار عليه في شئ لم يوافق رايه:
لك ان تشير علي وارى، فان عصيتك فاطعني.
لماذا؟ لان عبد الله هذا لا يمثل برايه راي غالبية الناس ليأخذ به الامام بلا نقاش مثلا، كما انه ليس بالخليفة الذي اختاره الناس فهو مفترض الطاعة على اي حال مثلا، كما انه لم يعرف بحصافة الراي في كل شئ كأن لا يخطا اذا ما ادلى برأي لياخذ به الامام على علاته او بلا نقاش او تروي، فضلا عن ان الامام بهذا النص، وفي الوقت الذي شجعه فيه على ابداء المشورة على اي حال، ذكره بان للراي العام مكانة هو الاخر في تفكير الامام وقراراته، ولذلك فان عليه ان لا ينتظر الاخذ بآرائه فور الادلاء بها، قبل ان يسمع راي الاخرين من الصحابة وعامة الناس، ابدا، فعند الامام، راي الاغلبية هو المحترم، وليس راي الاقلية، او ما تسمى باهل الحل والعقد، والذي يصادر راي الامة عادة.
ولشدة اهتمام الامام بالحث على المشورة وحرية التعبير وعدم قمع الراي الاخر مهما اختلف معه، نجد انه نجح بهذا الاسلوب في صناعة رجال افذاذ يقولون مر الحق اينما كانوا حتى اذا جاء على حساب مكسب دنيوي او هدد حياتهم وعرضها للخطر، فلقد علمهم الامام كيف يعبرون عن انفسهم وعن آرائهم بلا مصانعة او خوف او تردد.
تعالوا نقرا القصة التالية للتدليل على هذه الحقيقة:
بعد استشهاد الامام عليه السلام و (صلح) الامام الحسن عليه السلام، وبينما معاوية في مجلسه العامر وفيه عقيل بن ابي طالب، اخو الامام امير المؤمنين عليه السلام، ساله قائلا: اخبرني عن عسكري وعسكر اخيك، فقد وردت عليهما.
قال عقيل: نعم اخبرك؛ مررت والله بعسكر اخي، فاذا ليل كليل رسول الله (ص) ونهار كنهار رسول الله (ص) الا ان رسول الله (ص) ليس في القوم، ما رايت الا مصليا، ولا سمعت الا قارئا، ومررت بعسكرك، فاستقبلني قوم من المنافقين ممن نفر برسول الله (ص) ليلة العقبة.
ثم قال: من هذا عن يمينك يا معاوية؟ قال: هذا عمرو بن العاص، قال: هذا الذي اختصم فيه ستة نفر، فغلب عليه جزار قريش، فمن الاخر؟ قال: الضحاك بن قيس الفهري، قال: اما والله لقد كان ابوه جيد الاخذ لعسب التيوس، فمن الاخر؟ قال: ابو موسى الاشعري، قال: هذا ابن السراقة.
فلما راى معاوية انه قد اغضب جلساءه، علم انه ان استخبره عن نفسه، قال فيه سوءا، فاحب ان يساله ليقول فيه ما يعلمه من سوء، فيذهب بذلك غضب جلسائه، قال: فما تقول في؟ قال: دعني من هذا، قال: لتقولن: قال: اتعرف حمامة؟ وكان عقيل علامة بالانساب، فهو نسابة زمانه، قال ومن حمامة؟ قال: قد اخبرتك، ثم قام فمضى، فارسل معاوية الى النسابة، فدعاه، فقال: من حمامة؟ قال: ولي الامان؟ قال: نعم، قال: حمامة جدتك ام ابي سفيان، كانت بغيا في الجاهلية صاحبة راية. فقال معاوية لجلسائه: قد ساويتكم وزدت عليهم فلا تغضبوا.
والان، اوليس من حق معاوية ان يقول لاهل العراق (والله لقد لمظكم ابن ابي طالب الجراة على السلطان،  وبطيئا ما تفطنون)؟.
اذن، في دولة الامام يجرئ، بتشديد الراء وكسرها، الحاكم الرعية على قول الحق، ليمارس الراي العام دوره في النقد والرقابة والمتابعة والمحاسبة بعد ان يقضي على المقولة الشائعة التي تدمر البلدان قبل اوانها، وهي (ما لنا والدخول بين السلاطين) وكأن السلطان حق خاص للحاكم وزبانيته وحاشيته الفاسدة.
في دولة الامام لا يقطع لسان لكلمة حق، ولا يطمع، بتشديد الميم، لاسكاته عن قول الحق والنقد، وفيها يمارس الراي العام كامل دوره في الرقابة على المسؤول والمحاسبة، واذا احتاج الامر فيزيح الحاكم عن عرشه، فالمسؤول اجير عند الناس وليس مالك لهم ولحقوقهم ولخيرات بلادهم ومشاعرهم واحاسيسهم.
تقول سودة بنت عمارة بن الاشتر الهمدانية:
قدمت على امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام في رجل ولاه صدقتنا، فكان بيني وبينه ما بين الغث والسمين، فاتيت عليا عليه السلام لاشكو اليه ما صنع بنا، فوجدته قائما يصلي، فلما نظر الي انفتل من صلاته، ثم قال لي برافة وتلطف {الك حاجة؟} فاخبرته الخبر، فبكى ثم قال {اللهم انت الشاهد علي وعليهم، اني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقك} ثم اخرج من جيبه قطعة جلد كهيئة طرف الجراب، فكتب فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم {قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس اشياءهم} {ولا تعثوا في الارض مفسدين} {بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ} اذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يديك عن عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام.
فأخذته منه، والله ما ختمه بطين ولا خزمه بخزام فقرأته.
للرعية، اذن، الحق في ان تراقب المسؤول وتسقطه عند الضرورة، وليس للحاكم الحق في ان يدافع عنه.
وبهذه الشفافية العالية والوضوح منقطع النظير تميزت دولة الامام، فالحاكم فيها يصغي جيدا للرعية ولا يخفي سرا على الراي العام، ولا يكذب ولا يغش، وهو لا يدافع عن ولاته اذا اخطأوا، كونهم من معتمديه او نوابه او من حزبه او جماعته، فهو اول من يطردهم عن موقع المسؤولية اذا تيقن من فشلهم او ظلمهم للرعية، لانه اول مسؤول عنهم، بل انه (ع) كان يوصي ولاته على الامصار بمصارحة الناس كلما ظنوا فيهم امرا لا يليق، فساد مالي او اداري مثلا، يقول (ع) لمالك الاشتر في عهده اليه عندما ولاه مصر:
وان ظنت الرعية بك حيفا فاصحر لهم بعذرك، واعدل عنهم ظنونهم باصحارك، فان في ذلك رياضة منك لنفسك، ورفقا برعيتك، واعذارا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق.
فتغيير الصورة النمطية التي قد يرسمها الراي العام عن الحاكم لا تتغير بالقسوة والارهاب والقتل والاعتقال والمطاردة حد الاغتيال، او بالكذب والتضليل، او من خلال صناعة الازمات وتحويل انظار الراي العام صوب الامور الثانوية او التافهة، وانما بتقديم الادلة والبراهين الصحيحة التي تشرح موقف الحاكم ازاء ما اتهم به، فان كانت التهمة صحيحة فان عليه ان يقدم العذر للناس واذا اقتضت الضرورة فليقدم استقالته ويترك السلطة، اما اذا كانت التهمة كاذبة وغير صحيحة وهي من نسج خيال المعارضة هدفها التسقيط والتشهير، فليبين الادلة المقنعة والدامغة بهذا الصدد ليبرئ ساحته امام الراي العام.
ان هذه الطريقة من التعامل الشفاف بين الحاكم والرعية هي التي تقضي على ظاهرة الدعايات والشائعات التي تكثر في بلداننا، العراق نموذجا، ولا اثر لها في الغرب، لان الحاكم عندنا يبرر التهمة بتهمة اخرى، الكذب مثلا بالتضليل والتهديد، اما عندهم فالحاكم لا يبرر تهمة الا اذا كان محقا في الرد عليه، والا فاستقالته تسبق اعتذاره للراي العام.
ومن اجل المزيد من بذل الجهد لتحقيق هذه الشفافية المطلوبة في الحكم، فقد كان الامام يسعى لهدم كل الاسوار المصطنعة والحواجز الكونكريتية والسلاسل الحديدية التي قد يبنيها الولاة ببطانات السوء لتحجبهم عن الناس من الوصول اليهم، فكان يوصيهم بقوله، كما في كتاب له عليه السلام الى قثم بن العباس، وهو عامله على مكة:
اما بعد، فاقم للناس الحج، وذكرهم بايام الله، واجلس لهم العصرين، فافتي المستفتي، وعلم الجاهل، وذاكر العالم، ولا يكن لك الى الناس سفير الا لسانك، ولا حاجب الا وجهك، ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها، فانها ان ذيدت عن ابوابك في اول وردها، لم تحمد فيما بعد على قضائها.
وانظر الى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه الى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة، مصيبا به مواضع الفاقة والخلات، وما فضل عن ذلك، فاحمله الينا لنقسمه فيمن قبلنا.
كما انه كتب الى الاشتر في عهده المعروف يقول:
واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد، بضم التاء وكسر العين، عنهم جندك واعوانك من احراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فاني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يقول في غير موطن {لن تقدس امة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع} ثم احتمل الخرق منهم والعي ونح عنهم الضيق والانف يبسط الله عليك بذلك اكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما اعطيت هنيئا، وامنع في اجمال واعذار.
ويقول عليه السلام في جانب آخر من عهده اليه:
واما بعد، فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فان احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالامور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل.  
ان قرب الحاكم من الناس تروض نفسه على الاستقامة، فعندما يشعر الحاكم بان عيون المجتمع تراقبه في كل صغيرة وكبيرة، وان الراي العام قريب له وهو له بالمرصاد، فانه سيروض نفسه على الاستقامة والابتعاد عن كل انواع الفساد، وعندما يوصي الامام عليه السلام عماله بصرف المال العام على ذوي الحاجة والفاقة، وفي المجلس العام وامام مرأى ومسمع العامة، فانما يريد ان يمنعهم، بطريقة اخرى، من التلاعب بالمال العام سواء من خلال الاستحواذ عليه مثلا او توزيعه على بطانته او مستشاريه ومريديه او محازبيه، لان الحاكم الذي لا يستشعر رقابة المجتمع يفسد ويطغى ويتجبر مهما تمظهر بالتقوى والايمان، فما بالك اذا لم يكن من التيار الديني؟.
ان الشفافية عنصر مهم في اطلاع الراي العام على سير امور الدولة، وكلما اطلع الناس على امور  الحكم، كلما تسلحوا بما يلزم من اجل رد الشبهات والدعايات والشائعات التي يطيرها اعداء الدولة ضد السلطة والنظام والحاكم كذلك، فان من طبيعة الناس انهم يعادون ما يجهلونه، كما ان من طبيعتهم انهم يقفون صافا كالبنيان المرصوص خلف ما يملكون بشانه المعلومة الصحيحة والكافية، والى هذا المعنى اشار امير المؤمنين عليه السلام بقوله {الناس اعداء ما جهلوا} فاذا اراد الحاكم ان لا يستعديه الراي العام، واذا اراد ان يفهمه ويتفهم الوضع العام وسير الامور في الدولة، واذا اراد ان يضع الراي العام الامور بنصابها فلا تضخيم لامر ولا تحقير لاخر، واذا اراد ان لا يختلط الحق الباطل عند الراي العام، فان عليه ان يعلمهم بسير امور الدولة ليناصروه، اما اذا اخفى عليه مشاكله واخفاقاته وخلافاته مع الكتل الاخرى، ثم يفاجئهم بمؤامرة مزعومة او خطة انقلابية غير متوقعة، فان ذلك مما يدفع بالراي العام الى التشكك في نواياه وعدم تصديقه ولو قدم الف دليل ودليل، فان الادلة والوثائق تنفع كبراهين للتدليل على معلومة عندما يكشفها الحاكم للراي العام في الوقت المناسب وليس في الوقت الذي يحدده هو، لتوظيفها كادوات في تصفية حسابات او لتسقيط الخصم وتشويه صورته او ما اشبه.
ولطالما نادى الامام عليه السلام بقوله، في اشارة الى الشفافية في التعامل مع الشان العام، خاصة من قبل الحاكم {لا يقيم امر الله سبحانه الا من لا يصانع، ولا يضارع، ولا يتبع المطامع}. 

نـــــــــــــــزار حيدر

NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM

 

 

 

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى