ادب وتراث

( سنوات كازابلانكا ) لفيصل عبدالحسن.. !! هندسة توابيت الموتى في مجريات الهجرة إلى المغرب

زيد الشهيد *                                                                         

بين السرد القصصي والسيرة الذاتية  والتعلق بالتراث عبر مقولات ومواقف امتد فعل الكتابة الذي أطلق عليه الناص (رواية )على 116 صفحة طُبعت الكترونياً .. تنوعت اتجاهات الكاتب فيصل عبد الحسن – وهو قاص مثابر لم يتلكأ يوماً عن ممارسة الكتابة – فجاءت ( سنوات كازابلانكا ) تحكي بانوراما المعاناة التي تلظى، واكتوى، واحترق فيها كل عراقي ابان فترة الحصار التي لم تنل اهتماماً واسعاً من الكتاب لتأرختها بفعل تفاقم الأحداث التي تلتها والتي آلت الى الاحتلال وما بعده من هول دراماتيكي تمثل بالإرهاب والقتل المجاني على ايقاع التناحر الطائفي، سواء للذين ظلوا داخل الوطن أو لأولئك الهاربين من غائلة الحرمان ” حيث صار مردود الانسان الشهري لا يكفي ليوم من ايام ما كان يعيشه”  من جهة وبطش السلطة من جهة أخرى .

اختط السارد في (سنوات كازابلانكا) الذي جعل لها عنوانا فرعياً ( سيرة دينار في بلاد الدراهم ) السرد بلسان السارد العليم ثلاثة مسارات لتشكل هيكلية نتاجه .. كان المسار الأول هو افتتاح الجزء الذي يريد الخوض فيه بتضمين مقولة أو حكمة أو حوار – مستل من التراث العربي- لتكون إيماءة لما سيقوله. وكان المسار الثاني هو الحديث عن مجريات هجرته إلى المغرب مودعا ليبيا الذي عاش فيها لزمن يسير على أمل الحصول على لجوء إنساني من ذلك البلد الأطلسي الذي يعيش انفتاحاً سياسيا واجتماعيا وثقافياً، فكانت التفاصيل المتعلقة بإبجراءات المراجعة والمتابعة في إطار المعاناة اليومية التي عاناها هو وأسرته في بلاد يدخلها لأول مرة؛ فيما المسار الثالث سلط الضوء على مجريات الحياة اليومية للناس وطبيعة العلاقات والذهاب إلى الصحراء حيث جعل صفحات عديدة من الكتابة التي تشبه تقريراً بحثيا عن قبائل الـ( املشيل ) وظني أنه أفاض كثيراً فجاء مثقلاً على السرد مقارنةً  بالصفحات السابقات التي كان فيها انسيابياً مدافاً بعسل المتعة للمتلقي الذي يهمه أن يعرف عن ذلك البلد العربي الذي يقع في أقصى الجناح الغربي من الوطن العربي. وما يهمنا هنا هو الدخول إلى عالم السارد الذي رمز له في العنوان الفرعي ( دينار ) كعملة نقدية ثمينة وذات قيمة ( كونه هو مهندسا في شؤون الطيران ، وكاتباً معروفاً يحمل من الثقافة ما لا يجب ان يلاقي الهول ويتلقى المعاناة التي سيسردها بين مجتزءات الكتاب) و ( بلاد الدراهم ) وهو ترميز واضح يؤول إلى يقين الفقر الذي تعاني منه تلك البلاد حيث لا صناعات كبيرة ولا مصادر طبيعية تأخذ بالاقتصاد الى رفاه الشعب.
ودينار هذا يبدو أنه اختط الطريق الخاطىء في كيفية الحصول على لجوء إنساني من خلال دولة عربية ضمن إجراءات روتينية معقدة وشروط تعجيزية من قبل دائرة شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة تثبت من خلالها أنك مضطَهد ومطارَد من قبل سلطة بلادك بمستمسكات ثبوتية لا تقبل الطعن المضاد والتأويل السلبي.
وكل من ذاق طعم الغربة المر وسحقته رحى الاغتراب عرض أولى العقبات التي تواجهه، ألا وهي عقبة ( التكيّف ) وخلق الألفة مع مكان لم تعرفه مسبقاً ولم تطأه خطاك .. وحين تجد أنك اخترت الطريق فوجدت نفسك وسط محيط فقير أفراده أنفسهم يعانون الانحسار الاقتصادي والضغط المعيشي والنأي من قبلهم عن كل ما هو غريب،  فلا بد لك أن تضع في حسبانك برنامجاً خاصاً لم تعتد عليه حتى وأنت تعلن نقمتك على مَن سبب لك ولأسرتك وآلاف الأسر العراقية التي لم تعتد من قبل سلوك مغادرة البلاد والهجرة اضطراراً (( صعب عليكٌ أن تستدر من رحم هذه الأرض درهما، وإذا حصلت عليهٌا، فما أسرع أن تنفقه، وما أكثر الحاجات التي أنت وعائلتك بحاجة ماسة إليهٌا، تراها أمامك في الذهاب والعودة في الأسواق، وتئن الرغبات في داخلك لعدم قدرتك على حياٌزتها، صعوبات حقيقية عشناها في أول شهورنا في مدينٌة المحمديةٌ، ونحن نتلمس خطواتنا الأولى بحذر في هذا البلد الغريب علينٌا، الذي لا يٌعطي مفاتيحه للغرباء بسهولة فليس من السهولة أبدا أن تلج دواخل هذا البلد الحقيقٌية من دون أن تعرف لهجة أبنائه، وهذه وحدها عقبة كأداء لم نستطع نحن الكبار أن نتخطاها أبدا )) ص64.
أمام ضائقة العيش وضرورة الإمساك بعمل يدر عليه ما يمكن أن يصرف اليوم بلا جوع وحرمان انصرف الناص يسرد محاولاته اليومية؛ إلى إن اهتدى إلى عمل ينأى عن اختصاصه، هو المهندس في ميكانيك الطيران، في شركة نقل الموتى فأوكلت إليه مهمة هندسة التوابيت والتعامل مع الخشب الذي سيهندس ليكون تابوتاً يضم جثث موتى:(( دخلت أول مرة إلى مقر شركة نقل الموتى عبر البحار! باحثا عن عمل، كأنما قطعت آلاف الكيلومترات من حدود وطني العراق حتى وصولي لهذا البلد لأعمل في شركة تتاجر بالموت والموتى! وهذا هو قدر اللاجىء العراقي ! ليبقى  حياٌ أن قدر الله وتفضلوا بقبوله عاملا في شركة نقل الموتى الميمٌونة! )) ص20
الاسترجاع أو التداعي بالمعاني.  في خضم معاناته ومحاورة الذات عن ما حصل له ولأسرته من معاناة قاهرة وما عاشت معه كلمة ( لاجىء) وثقلها، ومحاولاته إقناع الذات أن ليس هو فقط مَن عانى مرارة اللجوء بل الكثيرون قادة وساسيين وكتاباً،  يسترجع الناص بطريقة التداعي فيمنح القارىء معلومة عن الاشخاص الذين حقت عليهم كلمة لجوء واستقبلتهم بلدان . فيمنح القارىء أسماء مثل : الرئيس التونسي بورقيبة، والجزائري بن بيلا، والسوداني جعفر نميري، والثائر المغربي أحمد الخطابي  أحد أمراء أسرة قيصر روسيا بعد استيلاء البلاشفة على روسيا، وشاه ايران، وشكري القوتلي من سوريا، وعلي ناصر محمد من اليمن الجنوبي، ومنصور الكيخيا من ليبيا، وفريق القدم الاثيوبي بكامل طاقمه، هؤلاء كلهم التجؤوا الى مصر في اوقات متفاوتة  فاحتضنتهم .
ومثلما تلاحقه مفردة لاجىء فان مفردة ( أدب) تعنُّ عليه فتدفعه للكتابة كديدن يومي اعتاد عليه  اندفاعاً لكسب مادي من خلال مكافآت يمني النفس بالحصول عليها من صحف ومجلات عربية لتضئل من وطأة الفقر الذي يتربص له على مر الوقت . كما استرجع اسماء ادباء عراقيين ( يذكرهم بالاسم الأول ) عاش واياهم وجهاً لوجه  زمنا في العراق، وعاش معهم عبر الرسائل يوم افترقت الوجوه، وتوزعوا في المنافي. وكل واحد من هؤلاء يفيض بمعاناته في بلد الغربة. فلا ترى واحداً منهم يبوح بسعادة مكتشفة وسرور مُحاز .إن الشارع في قراءة كتاب ( كازابلانكا ) لا يتركه جانباً حتى ينتهي .. إنها سيرة معاناة تبث عطر الأسى والألم حتى والناص يتحدث عن جزئيات لا تهمه كأن تكون شوارع مدينة المحمدية وأهلها وعلاقتهم بالغرباء سياحاً ومصطافين.. إن وطء الغربة كان ثقيلاً  تنوء به أسطر الكتاب ويتلمسها القارىء وهو ينتقل من صفحة لصفحة يساوره شعور أنه هو مَن يعاني، وإنها هي الأحداث تمر عليه في محاولة صرعه ورميه مكبلاً بالحزن العميم على شعب يمتلك وطنه الغنى ذهباً فلا يمسك مواطنيه غير الرمل الحارق .
*  كاتب وناقد من العراق

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى