ادب وتراث

الشاعر الأمريكي براين ترنر في “هنا أيتها الرصاصة” و الجرح العراقي

” الحرب أين تكون..سُم الإنسانية” أندريه مارلو/ القدر البشري
التقلبات في الحياة هي ما تدهش الحياة نفسها بسبب رعب الغرابة والمصادفة، فتعطيها مذاقاً خاصاً، ولا أدل على ذلك من روح المشابهة بين الشاعر الأميركي الجندي براين ترنر والشاعر العراقي الجندي ،كذلك، لكنه الهارب ، حيدر الكعبي، واللذين التقيا هناك عند غربتهما، في العراق عندما كان الأول فيه، وفي أميركا، عندما أصبح للثاني وطنه الجديد، غير إنهما لم يعرفا أبداً أنهما سيلتقيان عند ضفاف الشعر وولعه الوجودي, والمنقب في عذاب الروح  ومصائر الناس المجحفة. حيدر الكعبي شاعر عراقي مولود في البصرة 1954 ، ترك  دراسته في جامعة بغداد 1979، لأسباب سياسية، ثم سيق جندياً في حرب الثمانينيات ، لكنه استطاع الهروب منها وبقي متخفياً، بهويات منتحلة ، و في أماكن بصرية وعراقيةٍ شتى. بعد انتفاضة 2 / آذار عام 1991 المغدورة، أمضى ما يربو على ثلاث سنوات لاجئاً في مخيمي (أرطاوية ورفحاء) بالمملكة العربية السعودية. صدر له عن دار (المدى)- دمشق- ديوانه الأول بعنوان (قصف) عام 1998 ، كما قدم وحقق (أغنية حب.. وقصائد أخرى) المجموعة الشعرية الأولى للشاعر البصري (مهدي طه)،القتيل شاباً عام 1975. يقيم(الكعبي) حالياً في الولايات المتحدة الأمريكية ويحمل جنسيتها، وأكمل دراسته الجامعية والعليا فيها. ترجم وقدم مؤخراً: للشاعر الأمريكي(براين ترنر):” هـُنا أيّـتها الـرّصاصة”*. يؤكّد الكعبي في مقدمتها انه قرأ بعض قصائد الشاعر (ترنر) قبل أن يلتقيه عام 2009 إذ كانا ضمن المدعوين من قبل  دار نشر جامعة ميشيغان لقراءات شعرية من مجموعة حملت عنوان:(أزهار اللهب:أصوات العراق غير المسموعة) وهي أنثلوجيا الشعر العراقي الصادر عن تلك الدار عام 2008 . حين صعد (براين) المنصة قال: انه يأمل أن تقام أمسية مثلها في العراق لكي يشارك فيها إلى جانب الشعراء العراقيين. يذكر الكعبي في المقدمة انه يؤمن بأهمية هذه القصائد، لكنه يضيف “لا استطيع أن أقرر بكَم تدين بهذه الأهمية لمستواها الفني، وبكم للظرف السياسي الذي تمخض عنها”.الشاعر الأمريكي (برايَن ترنر( ولد في كاليفورنيا عام 1967وحصل على الماجستير بالفنون الجميلة من جامعة أوريغون قبل أن يلتحق بالجيش الأمريكي وأمضى عاماً من خدمته العسكرية في العراق بعد اجتياحه من قبل قوات التحالف في عام 2003. صدرت لـ”براين ترنر” مجموعته الشعرية الأولى المعنونة (هنا أيتها الرصاصة) عام 2005. (براين)، الشاعر الواقف ضد الحرب، لم يدعَ للدخول في الجيش الأمريكي ، لكنه عند بداية الاستعدادات لعملية (تحرير العراق)، تطوع فيه، وقد تجاوز عمره الثلاثين عاماً، في كل ما جرى معه من أحاديث وحوارات كان يواجهه السؤال التالي:” لماذا تطوعت في الجيش، هل لتسهم في هذه الحرب، البعيدة عن حدود أمريكا،وأنت المعروف انك مناهض للحرب هذه “!!.فيرد بأجوبة عدة تحمل ذرائع شتى بعضها شخصية ، وأخرى عامة. لكن كل تلك الإجابات، تتلخص بدوافع ثلاثة،عائلي وسايكلوجي واقتصادي. بالنسبة للعامل الأخير يوضح(برايـَن):” كنت قد تزوجت منذ فترة قصيرة وقلت لنفسي سأعود مما وراء البحار لأكون عائلة. وهي طريقة مثلى  وعملية  لشخص حديث الزواج، فالذهاب للجيش يحل معظم المشاكل المالية التي تواجهه”. ويضيف:” نشأتُ وفي عظُمة كتفيَّ شريحة بروليتارية”!. وهذا يعني انه ينتمي لعائلة فقيرة. ويعلن بصراحة انه” في بداية زواجي لم يكن لدينا ما يكفي لشراء حتى وسادة”. والذهاب للجيش حل كل هذا، إضافة إلى انه مكنه من أن يسدد قروضه الدراسية الجامعية العليا، فمن المعروف أن تلك الدراسات باهظة الكلفة في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي في هذا تكون من نصيب الأثرياء غالباً. بسبب تطوعه في الجيش يؤكد (براين) انه تمكن من حل المصاعب الاقتصادية التي كانت تواجهه، وهنا يكشف عن الوفرة المالية التي تتعامل بها الإدارة الأمريكية مع منتسبي مؤسستها العسكرية وهو ” سخاء  يشطب بجرة قلم واحدة المشاكل المادية التي يرزح تحتها” كل مَنْ ينخرط في الآلة العسكرية الأمريكية. بالنسبة للعامل السيكولوجي فأن (براين) يقول” الأمر يتعلق بنوع من طقوس التحول في تركيبتي السيكولوجية”. وهو ما دفعه للالتحاق بالجيش. أما السبب العائلي فإن لـ(براين) تراثاً فيه ، إذ أن والده  كان مترجماً للغة الروسية في الجيش الأمريكي زمن الحرب الباردة. في الجيش الذي اجتاح العراق أخفى براين عن الجميع كونه ((شاعراً)) وبقي شديد الحرص على أن يظهر بصفة الجندي فحسب والمقاتل المتخم والمدجج بالتجهيزات العسكرية ، وتظهره الصور” شاهراً بندقيته، مقطباً مستعداً لإطلاق النار”. كان براين” إذن شاعراً متنكراً في زي جندي”. تتألف المجموعة الشعرية المترجمة من( 170 )  صفحة ، وتحتوي على مقدمة للكعبي، التي نؤكد استفادتنا منها في ما يخص الشاعر(برايـن). وتنقسم الى أربعة أقسام احتوى الأول(14) قصيدة والثاني(13) والثالث(6)والرابع( 13). وثمة ملاحظات للكعبي، كان لابد منها، وتنحصر في حرصه بقدر ما يستطيع على اختيار الكلمات والعبارات المعروفة الشائعة على السنة الناس في العراق ، كما قام بتثبيت الاستشهادات التي يوردها الشاعر في مقدمة نصوصه التي يقتبسها من(القران الكريم) والتي سبق و ترجمه” نسيم جوزيف داوود” الى الإنكليزية. لكن الكعبي يؤكد اعتماده النص العربي كما ورد في (القران) نصاً في اللغة العربية، وفعل هذا مع  النصوص المقتبسة من المعري والجواهري وفاضل العزاوي. قصائد (براين) ليست من صنع الخيال الجامح، لشاعرٍ لا يحدق في ما يراه، بل هي الواقع الذي شاهده وتلمسه والتصق به عن قرب ، والجحيم الذي عاشه والعذاب الذي جربه ، والمجهول الذي كان يخشاه كـ (إنسان) زجَ بنفسه للأسباب المذكورة أعلاه في المكان الخطأ والزمن الخطأ وبإرادته الشخصية ، والتي يكمن خلفها ما تطرقنا إليه آنفاً. بعض هذه القصائد قصيرة وأخرى طويلة ولكنها مكثفة ومقطرة إلى حد كبير، ولا فائض لا معنى له فيها:
ما أنْ تنطقْ كلمة”موت”
حتى تسمعَ سلاسل الرياح
تندفع صوب حُجُبِ المجهول”
*
“الدبابات تدير سرفاتها الثقيلة
كجنازة المتحف باتجاه وزارة النفط
أحد الرماة يراقبُ أسداً يتعقب حصاناً”
*
“الكراكي تعشش فوق خطوط الكهرباء
في أوكار هائلة كطاسات كبيرة من العيدان والغصون.
أحد العرفاء،على الخط السريع، يطلق النار فيصيب واحداً،
يَذهلُ الطير، لحظةً، كأنه يَعْجبُ أن يأتيهُ الموت هنا،
في الساعة السابعة من هذا الصباح الجميل
قبل أن يميلَ إلى الجانب، ويتهاوى ببطء
منحلاً إلى اجحنة وريش”.
*
“ثمة قمر من الدم معلقٌ فوق دجلة.
وثمة طلب بإخلاء الجرحى ينقله المذيع
مشوشاً،
وتفاصيل عن انزلاق شاحنة أسلحة
وسقوطها في مياه الصيف الداكنة السريعة
الجريان
وعن رجلين لم يتمكنا من الخروج”.
*   
(براينر)في قصائده المترجمة لا يبتعد عن قصيدة الذات لكنها المبصرة انه يربطها  بالوجود الشخصي والمصائر  المحزنة والمأساوية لعامة الناس وبالتاريخ في العراق وينقب في ما جرى فيه ولشعبه، قبل تلك الحرب وجروحها وبعدها . الشاعر الأمريكي(براين ترنر) في قصائده المترجمة ، لم يكن يتنزه لقضاء عطلة نهاية الأسبوع أو للسياحة هنا ،انه وفي عجلة (الهمر) العسكرية التي يجلس فيها وهي تدوس هذه الأرض ، و سكانها الذين عليهم الابتعاد عنها دائماً  أكثر من(100) متر،وألا فسيواجههم المصير المحتوم الذي يأتي من طلقة قناص يجلس في (الهمر) ذاتها.حلَ الجندي (براينر) على هذه الأرض ليقتـلَ أو يُقتـلْ، وثمة بشر قتلوا أو سيقتلون، من المدنيين والمدنيات،وفي كل الأعمار، بلا ذنوب أو آثام أو خطايا ، ومن كل المكونات، التي تعيش في وطن عاثر الحظ طوال قرون:
” في الجوار امرأة عجوز تحتضن حفيدها
تهمس له وتهزه فوق ركبتيها
كأنها تهده لينام،
يداها مبللتان بدمه،
ثوبها الأسود  مشرب بدمه،
فجأة تنهار ساقاها تحتها
فتلتحم بالطفل على الأرض”
*
“يقال إن جنة عدن قد ازدهرت هنا ذات يوم
وإن هذا ما تبقى منها:
غبارٌ وعقاربُ رياحٍ وطيورُ أبي زريقٍ،
الشبيهة بالغربان،
تنعب بصوتٍ محشرجٍ مثل أطلال أغنية،
شبحُ جمال غابرٍ يتشبث بمساقط الظل”.
*
كاتب وصحفي أمريكي سأل ” محمود درويش” مرةً: في الحرب ماذا تكتب أيها الشاعر؟.فأجابه:أكتب صمتي!؟. فسأل الصحفي ثانيةً: هل تعني أن للكلام مدافع؟.رد “محمود درويش”:نعم،صوتها أعلى من أي صوت. الشاعر “برايـَن ترنر”، المتواجد  بـ(زي الجندي)، رأى وفي الحرب  التي خاضها وعاشها في العراق، وما خلفته من مرارات وخسارات لا تُصدق إلا لمن كان في بؤرتها ووسَم نارها، وإزاء كل ذلك بعث برسائله عنها ، بالتزامن مع دوي مدافعها ، ومنها ما ترجمه الكعبي في”هنا أيتها الرصاصة”وأهداها إلى زوجته الأمريكية ، و يوجه شكره في مقدمتها إلى: هاشم تايه وعلي مزهر واحمد محمد أمين وسهيل نجم وجواد الحطاب وشاكر لعيبي وقاسم حنون ودنى غالي ودنيا ميخائيل ،وأصدقاء له ساهموا في التعليق وإبداء الملاحظات حول مسودة الترجمة، وكذلك يشكر ” الجندي السابق” الشاعر “براين ترنر”  لتوضيحه بعض النقاط  التي أشكلت عليه في قسم من قصائده.
* الغلاف لوحة: للفنان: هاشم تايه / دمشق- 2013 .


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى