مقالات

إتفاق البريكست…طلاق بالتراضي أم إنتظار المزيد من الإمتيازات؟

فؤاد الصباغ / تونس 

إن تصويت مجلس العموم البريطاني علي الإتفاق التجاري و المالي المبرم بين رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي و حكومتها مع الإتحاد الأوروبي و المعروف “بالبريكست” يعد صفعة مؤلمة جدا لها ووثيقة سحب ثقة عن سياساتها المستقبلية. كما تعد هذه المبادرة التي قدمتها عبر إتفاق تسوية للوضعية البريطانية في الفضاء الأوروبي المشترك بمثابة وثيقة الخروج بمكاسب ثمينة منها علي الصعيد التجاري و المالي. لكن هذه المغادرة المؤكدة للإتحاد الأوروبي و التي من الممكن أن تدخل حيز التنفيذ في 29 مارس 2019 تضع جميع أعضاء مجلس العموم البريطاني في مأزق حقيقي بحيث سيكون خروج بريطانيا مذل و مهين جدا. فعلي الرغم من مجهودات تيريزا ماي لردع الصدع الداخلي قصد الحصول علي ضوء أخضر من حزب المعارضين لحفظ ماء وجه بريطانيا كدولة عظمي يحقق لها خروج مشرف و مكرم, إلا أن العوائق الداخلية من قبل المعارضين و بعض الأطراف في المجتمع المدني تبقي من أهم العوامل السلبية لها و التي من الممكن أن تؤدي لوفاة هذا الإتفاق. فهذا التصويت بالأغلبية من قبل مجلس العموم البريطاني ب 432 صوت ضد هذا الإتفاق مقابل 202 صوت مؤيد لهذا الإتفاق يعد نذير خطر علي مستقبل تيريزا ماي السياسي بحيث دخلت حكومتها مباشرة بعد هذا التصويت في مساءلة مستمرة حول مصير سياسة بريطانيا ضمن الفضاء الأوروبي الموحد. كما أن هذا التشتت في المواقف بين أعضاء مجلس العموم مع تمسك زعيم المعارضين بحزب العمال جريمي كوبن برفع عريضة لسحب الثقة عن حكومة تيريزا ماي مع دعوتها للإستقالة يفتح الآفاق أمام أزمة سياسية بريطانية داخلية من جهة و أزمة دبلوماسية أوروبية من جهة أخري. إن هذا الإتفاق الذي تم إبرامه بعد مفاوضات دبلوماسية مكثفة طالت أكثر من سنتين بين أعضاء البرلمان الأوروبي ورؤساء دول الإتحاد الأوروبي مع الحكومة البريطانية الحالية يبقي المخرج الرئيسي و الوحيد من هذه الأزمة. بالتالي أي إنحراف عن هذا المسار التوافقي الأوروبي بالإجماع بين جميع الأطراف سيمثل الإنجراف نحو المجهول و سيتسبب بخروج بريطانيا بكف حنين فارغ و بدون مكاسب أو إمتيازات مثل “الطلاق بين الزوجين بالتراضي”. فالإتحاد الأوروبي لا يمكن له تقديم المزيد من التنازلات لبريطانيا و هي خارج فضائه و سياساته الأوروبية المالية, النقدية و التجارية الموحدة بحيث لا توجد هنا مصالح مشتركة في العمق. أما من جانب مواقف الإتحاد الأوروبي التي صدرت مباشرة بعد هذا التصويت خاصة من قبل رئيس المفوضية الأوروبية جون كلود يونكر و كبير المفاوضين بالبرلمان الأوروبي الفرنسي ميشال بارنيه كانت في مجملها تدعو مجلس العموم بالتريث و بإعادة مراجعة الخطة “ب” التي من الممكن أن تطرحها تيريزا ماي مجددا بأفكار جديدة علي مجلس العموم البريطاني. إن هذا الرفض للإتفاق علي “البريكست” يكمن بالأساس في الرغبة من أجل المطالبة بحصد المزيد من الإمتيازات التفاضلية خاصة منها الإقتصادية كالإعفاءات الجمركية علي المبادلات التجارية التي كانت تتمتع بها بريطانيا قبل الخروج في ظل الإتحاد الجمركي المشترك. فهذا الإتفاق هو بالأساس يندرج ضمن طرح مجموعة من المكاسب المالية و التجارية لبريطانيا كمبادرات إقتصادية لتسمح لها بالخروج في إطار صفقة تضمن لها المبادلات التجارية و المعاملات المالية مع الإتحاد الأوروبي. أما بالعودة إلي الإستفتاء الشعبي البريطاني فنلاحظ أن نسبة 70% من الشباب لا ترغب في المغادرة من هذا الفضاء الأوروبي المشترك مقابل 70% من كبار السن ترغب بالفعل في المغادرة النهائية. بالتالي هذه النتائج لسبر الآراء تفسر بأن الرأي العام البريطاني غير قابل لفكرة الإنفصال من جانب واحد نظرا لبعض العوائق و السلبيات التي من الممكن أن يتسبب فيها قرار المغادرة بدون حزمة من التنازلات أو بدون مكاسب تذكر تشمل سهولة الحركة و التوظيف أو الحوافز الإستثمارية الأوروبية المشتركة. إذ من المعروف علي الساحة الإقتصادية أن إندماج بريطانيا في الفضاء الأوروبي الحر يشمل حاليا قبل المغادرة فقط السياسة المالية و التجارية المشتركة و لا يشمل السياسة النقدية المشتركة. بالنتيجة هذا الخروج سيكون له تأثيرات سلبية مباشرة علي الإقتصاد البريطاني خاصة في الأسواق المالية الداخلية و المبادلات التجارية أو من جانب جلب رؤوس الأموال الإستثمارية الأوروبية. أما بخصوص هذا الإتفاق المطروح حاليا للتصويت و لو أنه محدود و لا يحمل الكثير من الإمتيازات فهو قادر علي تقليص الفجوة و الحفاظ علي التوازن المالي الداخلي. فرهان حكومة تيريزا ماي بعد هذه الصفعة المؤلمة التي تلقتها خلال التصويت الأول علي إتفاق الخروج من الإتحاد الأوروبي البريكست ضمن الخطة “أ” من قبل مجلس العموم البريطاني, إلا أن الرهان مازال قائما قصد كسب المزيد من الدعم الداخلي لحزبها و حشد أكبر عدد من المعارضين داخل مجلس العموم البريطاني من أجل التصويت الثاني علي الخطة “ب”. فتيريزا ماي تبحث عن خروج مشرف لها بصفقة مالية و تجارية تعزز من مكانتها و قوتها السياسية داخليا و خارجيا و تحفظ لبريطانيا إستقرارها الإقتصادي و الدبلوماسي مع شركائها الإقليميين و الدائمين. أما في
المقابل إذا تم حجب الثقة عن حكومتها فإنها ستلجأ للإستفتاء الشعبي و التي تعد الورقة الأسوأ لها لأنها ستتسبب في نهائية مستقبلها السياسي. فإذا فشلت جميع مساعيها لكسب الرهان الإقتصادي البريطاني المستقبلي كالحفاظ علي عملة الجنيه الإسترليني القوي في الأسواق المالية العالمية و التوجه نحو المزيد من تعزيز الشراكة السياسية, العسكرية و الإقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية و الخروج بحزمة مكاسب جيدة من البريكست فمن المؤكد أن الأمور ستسير من السيئ إلي الأسوأ. فبالنتيجة ستدخل بريطانيا في الهاوية الإقتصادية و الأزمة السياسية و الدبلوماسية لأن الإستقرار و التوافق السياسي يحقق الإستقرار و الإزدهار الإقتصادي.

  • كاتب وصحفي من تونس 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى