Sliderادب وتراث

“ردني إلى بلدي”.. قصة قصيرة بقلم فيصل عبد الحسن

 كتب فيصل عبد الحسن / الرباط ( المغرب )
طوال 25 سنة من العيش في المغرب بلد المحبة والسلام لم أكتب إلا قصة واحدة عن هذا البلد الجميل، وكانت بعنوان”ردني إلى بلدي”ونشرت في العام 2006 في عدة صفحات ثقافية ومواقع ثقافية اليوم عثرت على رابط لها في أحد المواقع لمن يودّ قراءتها: اللوحة للفنان الفلسطيني اسماعيل شموط …ردني إلى بلادي مهداة إلى الشاعر العراقي أديب كمال الدين
وضع حقيبة السفر الصغيرة على السرير وأخذ يرتب لوازم رحلته البعيدة، فكر مع نفسه: بعد كل هذه السنوات من الاستقرار.. ستكون رحلته طويلة … وأخذ يتفحص كتب مكتبته الضخمة التي أخذت مكانا واسعا من الغرفة، لقد جمع كتبها كتابا.. كتابا، ولكل كتاب فيها له قصة معه، يتذكرها ولن ينساها ما دام حيا، وجميع أصدقائه من الكتاب وغيرهم، الذين زاروه في بيته أعجبوا بمجموعات الكتب التي جمعها، لكن عندما دقت ساعة السفر العظيمة، شعر بالحيرة تنتابه في اختيار الكتاب الذي سيصاحبه، وجاءت زوجته أثناء ذلك تحمل له قميصا مكويا طلبه منها… نظر في عينيها وشعر أنه بالرغم من سنوات الغربة التي عاشها مع هذه المرآة بعيدا عن وطنه ، فإنه لم يشعر بالسأم أو أذبلت السنوات في عينيه جمال قدها ورشاقته ، وتلك العلامات المميزة في وجهها والبارزة بارتفاع الفودين والتواء الغمازتين الباديتين كوردتين صغيرتين مذهلتين ، وقد خلب لبه وجهها الضاحك لحظة التقاها أول مرة في ذلك اللقاء الثقافي في مدينة الغربة الجديدة عليه ، ولا تزال تلك العلامات في وجهها تـثير فيه رغبات عميقة لا تنتهي وتدفعه كل لحظة في الاستزادة من ضمها إلى صدره وتقبيل فوديها ، والإغفاء على ساعدها ، وفكر : هل يحتمل فكرة الابتعاد عنها بالعودة إلى وطنه وأهله ؟ وقد رفضت فكرة العيش معه في وطنه تاركة أهلها ووطنها… سمعها تقول له : أتريد شيئا آخر ؟!
ابتسم وقال: إنه يبحث عن كتاب يأخذه معه إلى وطنه ويذكره بكل ما عاشه معها..
قالت، وهي تحرك يدها قريبا من صدرها المتوثب، وترمقه بعينيها الجميلتين بنظرات يعرف مغزاها وتذكره بالذي كان بينهما طوال السنوات الماضية من كلف ومحبة: – أتتركني أختار لك ؟!
قال مظهرا لا مبالاته، محاولا تخفيف تأثير الأنثى فيها عليه:
– أتستطيعين ذلك فعلا ؟!
اقتربت منه، ومدت يدها إلى خزانة الكتب، أحس صدرها قريبا منه وشعرها يمس أرنبة أنفه، وأنفاسها تلفح وجهه وعطرها يملأ صدره، وانعكست في عينيه ألوان وورود ثوبها، وفكر مع نفسه: إنها تعبث بي. لا تقبل أن تصحبني إلى بلدي لأنه عالم مجهول بالنسبة لها، ولا يمكنها أن تغامر بمستقبل طفلينا الدراسي بنقلهما إلى مدارس بلدي، التي تختلف فيه مناهج التعليم عما ألفه الطفلان في مدارس بلادها.. أجل إنها تعبث بي، وهي بعد عشرتنا الطويلة تعرف نقاط ضعفي …
أخرجت كتابا من بين صفوف الكتب، ونظرت صوبه: أزهار الشر.. لشارل بودلير.. إنه رفيق جيد في رحلة مليئة بالذكريات كرحلتك ! !
وخلال لحظة واحدة تذكر أول مرة التقاها منذ عدة سنوات في إحدى الملتقيات الثقافية.. تحدثا وقتها عن الشعر وكانت عيناها تقولان له شعرا حرك في روحه الحزينة ذكريات الأهل والوطن المبعد عنه بسبب معارضته لما كان يحدث فيه من مصائب بدعاوى الثورية والتقدم، وكان هو نفسه موضوعا لقصة من قصص الضحايا لو لم يسرع بالإفلات من شبكة الموت التي أخذت تضيق على عنقه ويسافر إلى خارج بلاده قبل أيام قليل من صدور أمر إلقاء القبض عليه…
وتذكر أنها في تلك الفترة كانت تحاول كتابة الشعر: رافقته في ذلك الملتقى بزيها الوطني، فتاة مكتملة الأنوثة، بشفتين كرزيتين وفودين ممتلئين، وعينين واسعتين تذكره بعيون البدويات في بلاده، وثمة لصفة مشعة فوق شعرها الكستنائي، ولفت نظرها إلى أنها تبدو كفتاة كبتت عواطفها ألف عام فضحكت مسرورة، وفي تلك الليلة التي لا ينساها شعر أنه يود لو أن يأخذ كفها ويحلق بها في سماوات لا متناهية البعد ، ويصيح بملء صدره: إنه وجد ما كان يبحث عنه…
قرأا تلك الليلة قصائد بودلير والمتنبي والسياب، بصوت مشترك عذب، وشعرا بالإشفاق على شاعر الماغوط وهو يمزق إشعاره على أرصفة الموانئ البعيدة… كان يرى آثار الدموع في عينيها بعد أن يكمل قراءة قصيدة من القصائد، وكانت قشعريرة باردة ترجفه وهو يرى أنه يجلس وفمه على بعد بوصات قليلة من أجمل شفتين رآهما في حياته ، تطربه الدموع التي يراها في عينيها ، وصارت منذ تلك الليلة الحلم العجيب الذي يصاحبه كل ليلة فيحول حزنه على أهله وأصدقائه وفراق وطنه إلى انتشاء وانشراح يذهب عنه كآبة الوحدة والشعور أنه بلا صديق أو قريب ، فقد صارت بمضي الأيام أهله وأقرب أصدقائه ، وما إن يدير أرقام هاتفها حتى يسمع صوتها الحبيب الذي أخذ يعوضه كل ما فقده في حياته ، وكان كلما مس أصابعها حينما يلتقيان في غفلة عن الأعين يشعر بالارتجاف يشل كل خلية من خلاياه ويسكره لوقت طويل..
نعم ، ارتجفت كفه وهو يأخذ ديوان الشعر من يدها ، وتذكر : جان دوفال.. حبيبة الشاعر بودلير، ورأى ارتجافة أصابعها أيضا، وعندما رفع عينيه والتقت بعينيها ، رأى اللمعة الغريبة ذاتها : إذن هي تفكر بذات الموضوع الذي كان يفكر فيه.. لقد تذكرت جان دوفال أيضا ، وربما تذكرت تحليليهما العميق للعلاقة التي كانت بينها وبين الشاعر ، ووضح لها وقتها مدى الاستعباد الذي كان بودلير يحسه اتجاهها… تركت مكانها القريب منه وجلست على كرسي يستعمله عادة بعد الظهر عندما يرغب باسترخاء لذيذ لقراءة الجرائد ، ورآها تضع ساقا على ساق فيتيح لها ثوبها الواسع تلك الحركة ، ولكنها أعطته صورة وامضة لأنوثة مفعمة بالإغراء ، ورمقته أثناء ذلك بعينيها الخبيرتين بحدس ما يجول في رأسه من رغبات وأفكار فشعر بالثورة تمور داخلها لأنها بحسها الغريزي عرفت أنها تخسر شيئا راهنت على أن يبقى ملكها إلى نهاية العمر ، وسمعها تهمس بصوت حزين :
– أرجو أني لم أغضبك طوال السنوات التي عشناها معا…
– وتمتم الرجل وهو يحاول أن يخفي ما ارتسم على وجهه من أمائر الحيرة والشرود وهو يحاول البحث بشكل أعمى في صفحات الكتاب :
– لا، أبدا…
وصمتا لحظات، ثم سمعها تقول:
– منذ سقوط الدكتاتورية في بلادكم وأنت تستمع إلى شريط فيروز التي فيه أغنية «ردني إلى بلادي..”
وسمع زوجته تغني بصوت جميل مقلدة صوت فيروز:
ردني إلى بلادي …
مع نسائـم الغوادي …
مع شعاع تغاوى
عند شاطئه وواديه…
وارم بي على ضفاف من طفولة البهاء…
كانت زوجته تغني بصوت حزين، والرجل يعد ملابسه: قمصان وسراويل ومنشفة وفرشاة أسنان وملابس داخلية. كانت غرفته بعد الظهر باردة، والضوء لا يدخل إليها إلا عبر الباب، وكانت المرأة على الكرسي الهزاز لا تصدر عنها حركة، لكنها كانت تدندن بكلمات الأغنية، وقطعت الغناء لتسأله:
“- هل تبقى هناك فترة وتعود إلينا مرة أخرى ؟ …”
“- لا أعتقد أني سأفعل ذلك ، سأنتظرك في بلادي – بلادنا – قال مصححا ثم أكمل مستدركا :
لقد تركت وكالة رسمية ولك حق التصرف في كل شيء لنا هنا…” صمتا لحظات ، وسمعها تقول متوسلة :
“- ألا تنتظر قدوم طفلينا من المدرسة لتودعهما ؟!”
فكر الرجل مع نفسه: إنها تعرف أن الطفلين هما نقطة ضعفي المدمرة … أجاب: “- لا أحب لحظات الوداع ، إنك تعرفين ذلك…”
“- لكنك تعرف مقدار تعلقهما بك …”
وسمع في نبرات صوتها ارتعاش يعرفه تماما ويعرف ما سيتبع هذا الارتعاش من دموع، وانتظر أن تشهق باكية، لكنها لم تجهش بالبكاء كما اعتقد:
“- ستخبرينهم عن عودتي إلى وطني وانتظاري لهم هناك..”
ضحكت هازئة وهي تهز يدها استهجانا :
“- لن أحدثهم عن ذلك أبدا فهم في سن لا تسمح بأن نحملهما فيها هموم الكبار.. ألا ترى ما نشاهده من مناظر الموت والأنفجارات والقتل في بلدك لا أريد أن أقلقهما عليك.. سأخترع لهما قصة عن رحلة طارئة لك إلى بلد سعيد تكثر فيه النوارس وتغرد فيه البلابل طوال الوقت…
رحلة عمل لا غير…”
لم يكن الرجل موافقا، لكنه كان يؤمن بالزمن، ويؤمن أن قناعاتها ستتغير وحين يرسل لها أنباء طيبة عن بلاده وأهله فإنها ستتبعه بعد أن ينهي الأطفال سنتهما الدراسية الحالية …
وقطعت المرأة أفكاره بقولها بلهجة جادة:
“- لو أعرف سببا واحدا معقولا لكل هذا…”
ورأى الرجل القفص الصغير الفارغ الذي أطلق طائره قبل أيام معلقا في الزاوية البعيدة عن الفناء، ولا يزال ثمة زغب بين مربعات سلك القفص الضيقة:
“- صدقيني ليس لدي ما أقوله من أسباب غير التي أخبرتك عنها..”.
“- كل الذي قلته غير مقنع ويمكنك أن تزور بلادك وأهلك حين تهدأ الأمور لفترة من الزمن وتعود إلينا بعد ذلك ولا أصدق أنك لا تستطيع الكتابة وأنت معنا وتسمع في التلفاز أخبار المصائب التي تحدث في بلادك…
والصعوبات التي يواجهها الناس هناك…”
“- هذا هو الواقــع …”
اقترب الرجل من خزانة الكتب وأخرج من دولابها خارطة كبيرة ملونة لبلاده صاحبته في غربته، وأخذ يثنيها عدة مرات وبعد أن أصبحت بحجم جيب سترته أخفاها فيه، وقال:
«سأذهب الآن…”
ومد يده للسلام عليها.. لم تقف أو تمد يدها إليه، ورأى الدموع تسفح على خديها، ثم سمعها تتمتم غاضبة :
“-امرأة أخرى وراء هذا.. غريزة الأنثى تقول لي ذلك …”
تنهد الرجل بضيق وسحب يده من الفراغ، وتناول حقيبته من فوق السرير ونظر إلى زوجته مشفقا قبل أن يترك الغرفة للمرة الأخيرة، ورآها تنشج باكية وتغطي وجهها بكفيها ورأى خاتم زواجهما يلصف بالضوء في إصبع كفها.. شعر بصدره يضيق وفكر أنه إذا بقي كذلك فإنه سيضعف وفي النهاية يركع أمامها ويعانقها ويمسح دموعها بقبلاته.. أخرج من صدره آهة محبوسة، وقال هامسا:
– “وداعـا..” وخرج من الغرفة إلى الباحة وغادر البيت مسرعا وهو يسمع صوت أولى جهشاتها الباكية…
وصلة القصة المنشورة:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=55531&nm=1

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى