ثقافة وفنون

مير بصري: أنا يهودي الدين عراقي الوطن عربي الثقافة

بغداد/ يوسف المحمداوي :
تقول الكاتبة انعام كجة جي انه برحيل مير بصري عن عمر ناهز ال(94)عاما في لندن،تكون ذاكرة عراقية ثرة اخرى قد انطفأت قبل أن تلقي بكل حمولتها من حكايات ودروس للاجيال العراقية الجيدة الباحثة عن قبس في العتمة ، فالرجل لم يكن آخر اليهود الذين اضطروا الى الانسلاخ عن بغداد،بعد طول عناد،بل كان قطعة ثمينة من تأريخ البلد،في الشعر والتراجم والاقتصاد والبلوماسية ،تضيف كجة جي سألته، ذات صيف، وأنا أزوره في بيته الواقع في ضاحية لندنية هادئة، عن سبب بقائه في العراق بعد ان غادره أغلب اليهود في فترة مبكرة من الخمسينات. قال: «لم اهاجر الى اسرائيل مع من هاجر لأنني كنت اشعر انني يهودي الدين عراقي الوطن عربي الثقافة».
من هو مير بصري؟:
ولد مير شلوموحاي بن شاؤل بن بصلئيل المعروف بأسم بصري في بغداد بمنطقة السراي وبالتحديد تحت التكية في التاسع عشر من أيلول عام 1911م .. من أسرةٍ عراقيةٍ عريقة عُرفت بأسم(عُوبديا)… كان من أبرز شخصياتها (عمه) الذي شغلَ منصب رئيس المحكمة الشرعية ببغداد عام 1848م،تلقى مير بصري تعليمهُ في مدرستي التعاون والأليانس في بغداد، ولازمَ الأب أنستاس ماري الكرملي والدكتور مصطفى جواد … فعنهما أخذ اللغة العربية، كما درس تأريخ العراق … على يد المحامي عباس العزاوي والعروض على يد الشاعر محمود الملاح، عمل الراحل مير بصري في الكثير من الوظائف العامة والخاصة مابين عامي(1928- 1952م)،فقد شغل منصب سكرتير وزارة الخارجية في الحكومة العراقية،ووكيلاً ومديراً للتشريفات فيها،وحضر الكثير من المؤتمرات الدولية ممثلاً للعراق، وقد ترأس عام1938م تحرير المجلة الشهرية لغرفة تجارة بغداد ولمدة ثماني سنوات. ثم أنصرف للأعمال الحرة ولكتابة الأدب والتأريخ وعمل محرراً وباحثاً في الصحافة العراقية،وصدرت له العديد من المؤلفات منها ديوان شعر بعنوان (الحرية)عام 1928،ورسالة الاديب العربي عام1969،ورجال وظلال عام 1955و(مباحث في الاقتصاد العراقي )عام 1948م،و(اعلام البقضة الفكرية في العراق الحديث)عام 1983)و(اعلام السياسة في العراق الحديث عام 1987)واغاني الحب والخلود،ولعل اهمها ماكتبه هو (رحلة العمر من ضفاف دجلة الى وادي التيمس ذكريات وخواطر)عام 1992وفيها يجسد بمرارة قصة عشقه لبغداد التي غادرها مرغما وتوفي بعيدا عنها.
قصة اعتقاله من قبل الأمن :
يروي مير بصري قصة اعتقاله من الامن حيث يقول انه في أول يوم من سنة 1969 عدت الى الدار مساءً فوجدت معاون الأمن “مخلف منير العاني” وجلاوزته … يفتشون دارنا غرفة فغرفة، واصفا ذلك الوقت بالعصيب جدا على اليهود، فقد أعلن رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر في خطاب شديد له انه سيمحق التجسس لأميركة وانكلترة ويقضي على العملاء وأذناب الدول الغربية، وقد ألقي القبض على عشرات الرجال والصبيان، من يهود ومسلمين ومسيحيين، بتهمة التجسس وألقوا في غيابات السجون، بل وحكم على البعض بالاعدام ،وبعد ان فرغ معاون الأمن من تفتيش دارنا وأخذ بعض الأوراق وطابعتين عربية وأنكليزية واعتقلني في تلك الليلة في موقف الأمن، وكانت التهمة الموجهة اليّ أن أحدى السيدات الأمريكيات زارتني قبل سنة أو نحو ذلك، فماذا أعطيتها من المعلومات السرية التي يستفيد منها “العدو الأمريكي المتربص بالعراق شراً” !!، قلت أن هذه السيدة تكتب أطروحة عن تأريخ العراق القديم لتقديمها الى بعض الجامعات الأمريكية، وقد جاءت بصورة رسمية واتصلت بوزارة التربية .. ورجال العلم والأدب .. للمباحثات في الموضوع الذي تتناوله… ثم أية معلومات سرية عندي عن الجيش أو غيره لاعطائها ؟.
الشعر واطلاق السراح :
وبعد ان تم اعتقاله قام الشاعر اليهودي المعروف , أنور شاؤول والذي كان يشغل منصب المشاور الحقوقي لرئيس الطائفة الموسوية .. بنظم ابياتا من الشعر قال فيها:
ان كنت من موسى قبست عقيدتي…فأنا المقيم بحق دين محمد
وسماحة الاسلام كانت موئلي…..وبلاغة القرآن , كانت موردي
مانال من حبي لأمّة أحمد……كوني على دين الكليم تعبّدي
سأظل ذيّاك السمؤال في الوفا……اسعدتّ في بغداد أم لم أسعد.!!
وقام الشاعر بارسال تلك الابيات إلى المحامي سلمان بيات الذي أوصلها إلى نائب رئيس الوزراء .. ووزير الداخلية صالح مهدي عماش .. عن طريق أخيه .. سكرتير مجلس الوزراء صلاح بيات، أستحسن عماش هذه الأبيات، وكان هونفسه أديباً شاعراً، فحدثه صلاح بيات بأمر أعتقال مير بصري فأستغربه لأنه لم يكن يعلم به، وفي الحال كلم مدير الأمن العام حامد العاني تلفونياً وأمره بإطلاق سراح مير.
تبرع بمكتبته للعراق :
يقول عنه المحامي علي حسين محيميد … مير بصري هو أديب وشاعر واقتصادي عراقي ولد ف بغداد عام 1911م وتوفي في لندن عام 2005م .. ولد مير لعائلة يهودية عراقية اصيلة عرفت باسم عبوديا حيث كان والده شاؤول بصري تاجراً للقماش في بغداد ووالدته من عائلة دنكور التي ينتمي لها أكبر حاخامات يهود العراق. وكان احد شخصياتها (عمه) الذي كان يشغل منصب رئيس المحكمة الشرعية , ببغداد 1848،ويبين المحيميد. تخرج بصري من جامعة بغداد … حيث درس في مجال الاقتصاد … شغل العديد من المناصب في العراق , منها منصب رئيس غرفة تجارة بغداد في عام 1943 وقبلها عمل مديراً عاماً في وزارة الخارجية العراقية، العراق بعد الهجرة الكبيرة .. التي قام بها يهود العراق نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات مع ما يقارب العشرة آلاف يهودي آخر حيث رفض مير بصري .. فكرة الهجرة إلى إسرائيل وترك العراق،حيث شغل بصري منصب رئيس فخري للطائفة اليهودية في العراق خلال فترة نهاية الستينيات،ولكن مع بداية السبعينيات واشتداد المضايقات عليه من قبل السلطة غادر العراق بشكل نهائي إلى بريطانياعام 1974م بعد فترة من المضايقات والسجن والإقامة الجبرية .. وسلسة من الإعدامات العلنية التي شملت عدداً من اليهود في بغداد وكان بذك آخر رئيس للطائفة اليهودية في العراق.و يجدر بالذكر أنه وقبيل مغادرته للعراق تبرع بمكتبته الشخصية والتي تضم حوالي أربعة آلاف كتاب هدية للمكتبة الوطنية العراقية له العديد من المؤلفات باللغة العربية يبلغ عددها حوالي الأربعين تتراوح ما بين الشعر والاقتصاد والسياسة والتوثيق التاريخي.
حرب حزيران والطائفة اليهودية :
ثم جاءت حرب حزيران، وهزمت اسرائيل الجيوش العربية واحتلت الضفة الغربية، وانعكس ذلك سلبا على من بقي من اليهود في العراق، حيث فرضت عليهم احكام قاسية وجردوا من حقوقهم المدنية .. وسجن العديد منهم وخطف آخرون وقتلوا..!!
يروي مير بصري: «كنت حينذاك رئيسا فخريا للطائفة اليهودية، وقد جرى اعتقالي لمدة شهرين .. بسبب ما كنت ابذله من جهود للدفاع عن ابناء طائفتي… وكتبت الى احمد حسن البكر والى صدام حسين , رسائل اطالب فيها بحقوق المواطنين اليهود الذين بدأوا يهربون من البلد , تباعا. وفي الوقت الذي منعت فيه عنهم جوازات السفر، فان اغلبهم فر عن طريق ايران. واستطيع ان اقول انني تمكنت، الى حد ما، بمراجعاتي  للمسؤولين ورسائلي الى رئيس الجمهورية، ان اخرج الكثيرين من السجن , وتخليص بعضهم من القتل».
كان القنصل البريطاني في بغداد (الذي يباشر عمله لرعاية شؤون الانكليز في العراق من مكتب في السفارة السويدية بسبب قطع العلاقات بين لندن وبغداد اواسط السبعينات) يزور مير بصري .. في دار الطائفة اليهودية، مرة في الاسبوع، لكي يزوده بالاستمارات المطلوبة للحصول على سمات الدخول الى بريطانيا.
الشوق لمدينته بغداد :
يقول مير بصري : كنت أباً لأربع فتيات، عايدة في الكلية التكنولوجية , ونورا قد تخرجت من الثانوية والصغيرتان في المدارس، ومن الصعب قطعهن .. عن دراستهن وتشويش مستقبلهن… لكن لما رأينا ان اكثرية اليهود يرحلون بالتدريج، بدأت البنات بالالحاح عليَّ بالسفر، فتركت بيتي في حي السعدون وأخذت اسرتي وسافرت…. وقد صادرت الحكومة العراقية , بيتي وسيارتي، غادر مير بصري العراق، مع زوجته السيدة مارسيل هارون مصري، دامعي الأعين. لقد فارق المدينة التي ولد فيها عام 1911 في محلة «تحت التكية»، قرب سوق السراي، وفيها عاش ومات .. والده تاجر القماش شاؤول بصري، وفيها عاشت وماتت والدته فرحة، ابنة الحاخام الاكبر عزرا دنكور،لفظ مير بصري انفاسه الاخيرة في غربته التي قضاها في لندن عام 2006 ، وقد عاش خواطره .. وهو يتوق الى استعادة ولو لحظة على شاطىء دجلة ، وكثيرا ما تجده يتغزل ببغداد التي عشقها .. حيث يقول وهو في غربته” :
على الاوطان في جبل وسهل…سلام الله عطر من سلام….بلادي حبها مددي وديني…تغلغل في الجوارح والعظام…هي الأم التي خلقت كياني…وجادت بالحشاشة والقوام…فيا للحسن من بغداد أضفى …على الوديان وشيا والآكام…مغان قد صفا فيها شرابي….وراق العيش في عز المقام.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى